على مر التاريخ تحكمت موازين القوى المتغيرة في تحديد مطامح الشعوب أكثر مما تحكمت المبادئ والشعارات ولم تكن الجغرافيا السياسية إلا تجسيدا
اصطناعيا لموازين القوى الناجمة عن صراعات وحروب وأزمات عرفت أمم كيف تديرها وتستفيد منها وخسرتها أخرى لضمور رؤاها الاستراتيجية وسوء استشرافها لمجريات الأحداث... ومن حولنا أصبحت حرب أزواد واقعا يفرض نفسه لأنها تدور في فضاء نتقاسم معه الانتماءات الاجتماعية... نتقاسم معه الجغرافيا والتاريخ... نتقاسم معه الانتماء الديني والطرقي... نتقاسم معه الماضي والحاضر والمستقبل... نتقاسم معه الزرع والضرع... نتقاسم معه الماء والكلأ... نتقاسم معه المعاناة مهما كان مصدرها... بعبارة اخرى نتقاسم معه ويلات الحرب مهما كانت مآلاتها... والحرب اليوم قائمة وتتسع رقعتها كل حين وتتعدد أطرافها وتتشكل أهدافها ومراميها، وموريتانيا شاءت أم أبت جزء من المشكلة ويجب أن تسعى لكي تكون جزءا من الحل حتى ولو كان حلا عسكريا ولا يمكن بمنطق المصلحة الوطنية العليا أن تظل موريتانيا تتوهم أنها خارج الصراع، والأسوأ هو التردد وارتباك المواقف فوضع رجل في الصراع وأخرى خارجه قد تناسب دولا كالجزائر ولكنها لا تناسب موريتانيا لأنها مخترقة في الصميم وبشكل مباشر ثم إن الانجرار وراء موقف عاطفي من قبيل أن القلب مع الأزواديين والعقل مع الماليين والفرنسيين والأفارقة أمر لا تحمد عقباه وقد يكون اقصر طريق لخسارة كل الفرقاء إن لم نقل كل الأصدقاء والأشقاء.
لم يعد هنالك متسع من الوقت للحديث عن مسوغات الحرب ولا عن إمكانيات تفاديها فهذا كلام تجاوزته أحداث الميدان.
إن الفرنسيين يواصلون حربهم الجوية ويشركون قواتهم البرية بأعداد متزايدة في محاولة لتقصير أمد الصراع والأفارقة يتعبأون للتدخل والماليون يلملمون فلولهم ويحاولون تصدر المشهد والجزائريون يفتحون مجالهم الجوي والمغاربة ضالعون عبر شراكات افريقية ذكية ومؤثرة في إدارة صراع الساحل، والحرب تقترب من حدودنا كل حين ونكتوي بنيرانها بصورة متزايدة ومباشرة وستستخدم اراضينا واجواؤنا إن لم تكن استخدمت بالفعل، وفي واقع كهذا تتطلب إدارة الصراع تدبر الأحداث بسرعة من حولنا واتخاذ قرار سريع وجريء بالانضمام الى الجهود الدولية والإفريقية والفرنسية بشكل يجعلنا شريكا فاعلا على الميدان يؤثر في مجريات الأحداث ويحسب له حسابه آنيا ولاحقا عندما تسكت المدافع.
لكن مشاركة موريتانيا يجب أن تكون مشروطة ومحددة الأهداف، واول الأهداف هو الدفاع عن حوزتنا الترابية وإبعاد خطر الإرهاب عن حدودنا، وثانيها هو مساعدة مالي على استعادة سيادته ووحدة اراضيه والتصالح مع ساكنته شمالا وجنوبا وتأسيس علاقات ثقة وشراكة مع دولة مالي الجديدة تتجاوز مظاهر الكراهية التي تنامت في الآونة الأخيرة، وثالث اهداف المشاركة الموريتانية هو حماية سكان الشمال المالي والحيلولة دون تعرضهم لعمليات إبادة محتملة إذا استمر الشحن العرقي في غياب التعدد البناء على مستوى المتدخلين، ورابعها هو إفهام الغربيين وكل الفرقاء أن أهداف الحرب مزدوجة فهي تهدف من جهة الى ازالة خطر الارهاب، ومن جهة أخرى إلى تحقيق مطالب السكان المحليين وتأطير جنوحهم المشروع لإدارة شؤونهم المحلية وتنمية مناطقهم وفق آليات تفاوضية تشاركية لا تدرك إلا بالحوار المالي - المالي المدعوم إقليميا ودوليا الذي يجب أن يكون أهم مخرجات الحرب الحالية، أما خامس الأهداف فهو خلق آليات سلام وتنمية تشاركية مستدامة بالمنطقة تخرج ساكنتها من سنوات العزلة والضياع، وتفتح أمامهم آفاق الحرية والحياة الكريمة في أوطان مؤمنة تنعم بحكامات راشدة لا تقصي أحدا وتصون مصالح الجميع.
وفي اعتقادي أن مشاركة موريتانيا واقعة وحتمية، وعلاوة على الأهداف المرسومة أعلاه تتطلب ثلاثة شروط يجب العمل على تحقيقها، أولها داخلي يتعلق بإشراك الجبهة الداخلية وتفعيلها على اوسع نطاق، وثانيها إجرائي ويعني قبول الماليين للتدخل الموريتاني ومطالبتهم الرسمية به في إطار الجهد الإفريقي، وثالثها تحسيسي لإفهام ساكنة أزواد من عرب وطوارق وغيرهم أن موريتانيا تتدخل لحماية حدودها ولحمايتهم وتخفيف معاناتهم وتسهيل حل مشاكلهم لاحقا... إن أي مواطن أزوادي ينظر إلى الأمور ببصيرة الحكمة والمنطق لن يسيئه تأمين قوات موريتانية شقيقة لمحور "ليره - تيمبكتو" في إطار عملية إفريقية دولية... إن الأخوة الأزلية بين الموريتانيين والأزواديين ستتجذر بما يوفره كل طرف من فرص نجاح عمل من هذا القبيل، فحياد موريتانيا غير ممكن ويقزم دورها ربما الى الأبد، وإقصاؤها يضر بمصالحها الاستراتيجية ويضر أكثر بمصالح الأزواديين، ويضع الجميع على هامش صراع ستنجم عنه إعادة ترتيب أوراق الساحل والصحراء لعقود قادم