لم يكن من السهل أن اتخذ موقفا صريحا وواضحا من هذه الحرب التي تخوضها فرنسا ضد الجماعات المسلحة في مالي. ولقد نشرت في صفحتي الشخصية على الفيسبوك بعض التدوينات التي تعبر عن مدى الحيرة التي وقعت فيها بعدما أعلنت فرنسا ـ وبشكل مفاجئ ـ عن بدء حربها في مالي.
والحقيقة أن فرنسا قد أساءت التصرف، وهي كثيرا ما تسيء التصرف، وذلك عندما أعلنت عن حرب دون أي غطاء أممي، حتى ولو كنا نعلم بأن الغطاء الأممي لا يمنح أي شرعية لأي حرب، لكثرة ما استخدم ذلك الغطاء لتبرير حروب غير شرعية..
ولقد أساءت الجماعات المسلحة التصرف، وهي أيضا كثيرا ما تسيء التصرف، وذلك عندما استغلت معاناة الأزواديين ونضالهم التاريخي لصالحها، وبسطت سيطرتها على إقليمهم، ولم تكتف بذلك بل إنها أعدت العدة للهجوم على الثلث المتبقي من الأراضي المالية، وكأنها أرادت بذلك الهجوم أن تستدرج فرنسا، وأن تفرض عليها أن تعلن الحرب ـ وبشكل مستعجلـ من طرف واحد، وفي ظل تخاذل دولي يصعب تفسيره .
ولقد أساء التصرف بعض الضباط الماليين، وكثيرا ما يسيء بعض الضباط التصرف، وذلك عندما قادوا أسوأ انقلاب في أسوأ الفترات على رئيس لم تبق من مأموريته إلا أسابيع معدودة ليزيدوا بذلك من تعقيد الأمور التي كانت من قبل ذلك في غاية التعقيد.
كما أساء التصرف من قبل أولئك الضباط الرئيس المالي المنقلب عليه، والذي رغم أنه كان من أكثر الرؤساء الأفارقة شرعية إلا إنه مع ذلك كان من أكثرهم فشلا، خاصة عندما ترك جزءا كبيرا من أرض بلاده للجماعات المسلحة، تستضيف فيه من تشاء، وتقيم فيه إمارة ظلت تتمدد وتتمدد، حتى كادت أن تبتلع الأراضي المالية بكاملها.
وأساء أيضا هذا الرئيس التصرف، كما أساء رؤساء مالي من قبله التصرف، وذلك بتعاملهم السيئ مع إقليم أزواد ومع سكانه مما جعل أهل الإقليم على استعداد لاحتضان الجماعات الإرهابية أملا في أن تخلصهم من اضطهاد أخوة في الوطن، كانت القسوة التي تعاملوا بها مع الإقليم وأهله أشد فظاعة من القسوة التي عاملهم بها المستعمر الفرنسي.
وكانت المحصلة الحتمية لكل تلك التصرفات السيئة هو هذه الحرب المخيفة التي تدور بجوارنا، والتي لا يمكن لأي عاقل أن يؤيدها لأنها حرب تقودها دولة استعمارية دون أي غطاء شرعي حتى ولو كان وهميا.
كما أنه أيضا لا يمكن لأي عاقل أن يندد بها، لأنها لو لم تنطلق، وفي مثل هذا التوقيت الحساس لكانت الجماعات المسلحة تتقدم اليوم إلى المدن التي لا زالت تحت سيطرة الجيش المالي الضعيف، والحكومة المالية الأكثر ضعفا.
والمشكلة وهذا هو ما يُشرع قلقنا هو أن هذه الجماعات المسلحة لا تعترف بالحدود ولا تتورع عن تكفير المسلمين، ومن المؤكد أنها لو تمكنت من بسط سيطرتها على مالي، فإنها لن تتأخر في شن حروب على جيشنا الكافر حسب اعتقادها، وربما تفكر في وقت لاحق في تأسيس إمارة على جزء من أرضنا، وتنصيب أمير قد لا يكون موريتانيا على هذه الإمارة الجديدة.
لن أندد بهذه الحرب ولن أؤيدها أيضا، رغم أني أعلم بأن بلدي لن يسلم من نتائجها الكارثية، كما أنه لم يكن ليسلم لو أن الحرب لم تنطلق، ولو أن الجماعات المسلحة ظلت تصول وتجول في الأراضي المالية دون أن تجد من يوقف توسعها وتمددها على الأراضي المالية.
وفي مثل هذه الظروف المعقدة والملتبسة يكون أهم شيء يمكننا فعله هو أن نعمل معا للتخفيف من آثار هذه الحرب المخيفة التي تجري على حدودنا.
وسيبقى أهم شيء يمكن أن تفعله السلطة القائمة هو أن تتمسك بموقفها الحيادي من هذه الحرب، وعلينا أن نشجعها على ذلك، خاصة إذا ما تأكد بأن الجزائر قد رضخت لفرنسا، وقبلت بفتح مجالها الجوي للطائرات الفرنسية المقاتلة. بل إنه يحق لنا أن نطلب من السلطة أن لا تقبل بأن تستدرج لهذه الحرب، حتى ولو تم تنفيذ عملية محدودة على أرضنا، ظاهرها أنها حدثت بالخطأ، وحقيقتها أنها مقصودة، وذلك لاستدراجنا لهذه الحرب التي يجب أن لا نقبل بأن نستدرج لها، وأن لا نكون طرفا فيها، لا مع فرنسا، ولا مع الجماعات الإرهابية.
إن الذي يجب علينا فعله هو أن نحمي حدودنا، وأن يظل جيشنا في حالة استنفار قصوى،هذا فضلا على أنه يجب علينا حكومة وشعبا أن نستقبل بالأحضان اللاجئين الأزواديين الذين ظلُموا بالأمس ويظلمون اليوم، والذين هم يعتبرون أول ضحايا هذه الحرب، حتى وإن لم يكونوا هم ضحاياها لوحدهم.
علينا أن نقف معهم في محنتهم هذه، وهذا هو أقل ما علينا فعله، وهو في الوقت نفسه أكثر شيء يمكننا أن نفعل لهم. وعلينا إن وضعت هذه الحرب أوزارها أن نساعدهم حتى يعودوا إلى وطنهم المالي معززين مكرمين في ظل حل يكفل لهم حقوقهم الأساسية، والتي حرموا منها منذ قيام الدولة المالية.
أما بالنسبة لأولئك الذين يطالبون بحرب ضد فرنسا نصرة للأشقاء، فلهم أقول إن حربنا مع فرنسا يجب أن لا تتوقف، ولكن ليس في تلك الساحة، وإنما في الساحة الثقافية حتى تستعيد لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية مكانتها اللائقة بها، والتي سُلِبت منها لصالح اللغة الفرنسية.
إن حربنا مع فرنسا يجب أن تظل حربا ثقافية واقتصادية حتى نتخلص من هذه التبعية الثقافية والاقتصادية التي لا زلنا نعاني منها. والغريب أن الذين ينادون اليوم بالوقوف ضد فرنسا هم الذين لا يتحمسون في العادة لمواجهة فرنسا في الساحة التي يجب أن نواجهها فيها حتى تستعيد لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية المكانة اللائقة بها.
أما للمعارضة فأقول بأن للنظام الحالي الكثير من الأخطاء التي تُشرع المطالبة بترحيله، لذلك فلا داعي لتحميله مسؤولية ما يجري في مالي لأن الماليين حكومة وشعبا هم من يتحمل مسؤولية ما يجري. كما أنه لا داعي للتركيز على ملف التعامل مع الإرهاب، وذلك لأن النظام الحالي قد وُفق كثيرا في إدارة هذا الملف، رغم أنه قد أخطأ في كل الملفات الأخرى.
تصبحون على وطن آمن...