الدين هبة ربانية ممن خلق فسوى وقدر فهدى للإنسان كي يسمو في مدارج الكمال متناغما مع الكون في انتظامه ودقة تصميمه، متصالحا مع ذاتها، فلا تستغرقه لحظة آنية عن استشعار وجود الله تعالى، والانقياد لدينه والتطلع إلى ما وراء المادة والحياة الأخرى... والفن فيض من وحي الروح تقتبسه من عين الوجود ونواميس الكون لتجعل المادي المحدود يشع بالمطلق المتسامي، وتتجلى فيه أشواق الإنسان الدفينة مما يجعل الروح ترفرف في ملكوت الله الواسع؛ كما لو كانت تخلصت من إسار الجسد، وتحرر ت من أغلال المحسوس والمادي وصارت حرة طليقة تحلق خارج الزمان والمكان، متحدية الموت والفناء.
ويمكن أن نلخص مواطن الالتقاء بين الدين وبين الفن في النقاط التالية:
الدين يستجيب لتطلعات عميقة في النفس البشرية ويلبي حاجات روحية غير مادية، بينما يحرك الفن مشاعر الإنسان العميقة الغامضة، ويعبر عن خلجات النفس غير المادية وتطلعها لاستكناه المعاني الكلية.
يهدف الدين إلى إيقاظ الروح وربطها بالكون وخالقه حتى ترتقي في معراج الكمال البشري، ويسعى الفن إلى إيقاظ النفس الإنسانية وتحريك جميع المشاعر التي تجيش في أعماقها؛
الدين هبة من خالق الجمال وواهب الوجود، و الفن هو "رؤية المطلق وهو يتلألأ من خلال وسط حسى" كما يقول الفيلسوف هيكل؛
الدين والفن أهم المكونات الاساسية للثقافة الإنسانية في جميع مراحل التاريخ من أقدم العصور السحيقة التي عاش فيها الإنسان إلى هذا العصر الذي بلغ فيه التقدم العلمي درجة لم يكن من الممكن أن تتخيلها البشرية منذ قرن مضى أحرى أن تطمح إلى تحقيقها .
يحتضن الإنسان الدين والفن في حنو أزلي حيث لم يحفظ لنا التاريخ أن أمة من الأمم استطاعت أن تعيش على هذه الأرض من غير عقائد تدين بها، وفن تعبر به عن خلجات النفس وتطلعات الروح .
الدين والفن ’’صنوان في أعماق النفس وقرارة الحس، وإدراك الجمال الفني دليل استعداد لتلقي التأثير الديني، حين يرتفع الفن إلى هذا المستوى الرفيع، حين تصفو النفس لتلقي رسالة الجمال’’ كما يقول الشهيد سيد قطب ؛
أن الفقيه المتشدد قد يصدر حكما متسرعا بتحريم الفن بجميع صوره وأنماطه، ولا يكتفي بذلك حتى يلعن الفن والفنانين، ثم تجده يعشق أنماطا معينة من الفن ويلهث وراءها دون أن يعرف سرا لذلك العشق أو سببا في ذلك الهيام ، فتراه ينتقي من الشعر أكثره إيقاعا موسيقيا، ومن اللباس أحسنه منظرا، ومن الألوان أكثرها تناسقا، ومن البيوت أجملها عمارة ونقشا وفرشا، ومن السيارات أدقها تصميما وأحسنها شكلا، بل إنه لا يرتاح إلا إلى أعذب قراء القرآن الكريم وأئمة المساجد صوتا وأكثرهم احتراما للمقامات الموسيقية في قراءته للقرآن الكريم ولا يكتفي بمن يقرؤون القرآن دون تلحين... وربما كان ممن يستمعون إلى "الأناشيد الإسلامية" فيطرب لها، ويحث الناس على ضرب الدف عند عقد الزواج. مما يدل على أن هذا الفقيه المتشدد إنما يحرم جوهر الفن وخلاصة خلاصته "الموسيقى" ويتشبث بأنواع أخرى من الفنون دونها في المرتبة وأقل منها كمالا، ولو عرف حقيقة الفن لأدرك مدى التناقض الواقع فيه عندما يفرق بين سماع الدف وبين سماع الموسيقى فيجعل الاختلاف في الدرجة سببا للتحريم، وينيط الحكم بعلة غير منضبطة، فيحرم الروح بذلك من مصدر جوهري لتجديد طاقتها وتلبية أشواقها .
أن الملحد المتطرف الذي ينكر وجود أي شيء وراء المادة، ويصر على أن الإيمان بما وراء المادة هو مصدر الشر في الأرض، ولا يكتفي بذلك حتى يلعن الدين والمتدينين، عندما يحاول أن يطبق فلسفته المادية على كل شيء في الوجود يستعصي عليه إخضاع الفن لفلسفته المادية، فيعترف صاغرا بأن الفن يعبر عن الجانب المتسامي واللامادي في حياة الإنسان... فيكون الفن بذلك شاهدا للدين على وجود عالم أسمى من المحسوسات ، وصنوا له في إيقاظ النفس البشرية لتتطلع إلى ما وراء المادة ، وليس عدوا لدودا له. أو لم يقل الفيلسوف شلنج بأن الموسيقى هي الفن الذي تجرد - إلى حد كبير - من أية طبيعة مادية ، وأنها محملة على أجنحة خفية تكاد تكون روحية. ويقول العلامة ميخائيل الله ويردي بأن الآلات مهما تعددت أشكالها لا علاقة لها بالموسيقى إلا من جهة الإخراج والتنفيذ، أما التكوين والإبداع فهو عمل الروح الإنسانية.
ولهذا فقد غالت طائفة من شيوخ الصوفية فنقلوا حكم الموسيقى من رتبة المباح إلى رتبة المندوب وهو ما أعارضه بشدة معارضتي لتفريغ الفن من رسالته النبيلة وجعله عملا ماديا لا يحرك أشواق الروح الدفينة وتطلعاتها إلى ما وراء المادة .
أكتبت هذه الخاطرة بمناسبة مرور عشر سنوات على أول مقال نشرته عن الفن في الإسلام حيث انتشر انتشارا واسعا وتلقاه المسلمون في أنحاء العالم بالقبول مع اختلاف مذاهبهم الفقهية .