بين أخطاء النظام السابق و نظام الأخطاء الحالي تترنح حالتنا المدنية العجيبة .. فبعد أن كانت مركزا لبث الفوضى الخلاقة لأصوات الأحياء والأموات ومن لم يولد أصلا في زمن السيبة البائس أيام العقيد العنيد أصبحت "الحالة" اليوم مُرَكّزاً من كوكتيل أخطاء إجرائية جار من جَرّة الجرأة والارتجال فاختلطت وجاهة التوجه بارتباك التنفيذ فكان الأمر أشبه بعطسة متثائب كاحٍّ شرقان تطاير رذاذها فلم يسلم منه إلا من رحم ربك.
آخر ما رشح من إناء حالتنا المدنية المدارة عسكريا كان انقلابا إجرائيا تمثل في قرار بوقف استخدام جوازات السفر القديمة ذات الصلاحية السارية، وبشكل فج فجائي جاف من كل ندى منطقي .. وكما هو الحال في قراراتنا الفوقية كان على المواطن أن يبتلع حسرته ويرثى لحاله مع "الحالة" ويحيل أمره إلى من لا حائل دونه وله الحول والقوة ..
أي بلاد تلك التي يفاجئ مواطنوها وقد حزموا حقائبهم وحملوا وثائقهم الرسمية بأنهم أصبحوا "بِدونا" على أبواب المطار؟ لا يقتصر الأمر على مجرد التأخر عن رحلة طيران سيتكلف صاحبها غرامة إعادة حجز، ولا ضياع وقت ثمين ولا تعقد إجراءات عودة إلى بلاد المقصد بالنسبة للمقيمين .. بل يتجاوز الأمر ذلك كله إلى حرقة الشعور بالاحتقار والدونية التي يبدو أنها سترافق كل مراحل إصلاح الحالة المدنية بدءً بطوابير الإحصاء الليلية وتطاير الصحف في أفنية الوكالة وانتهاءً بأخطاء التخزين واختزال الأسماء.
فكثيرة هي الأخطاء في الأسماء التي دعت البعض لغير آباءهم وثنّت الأسماء الثلاثية ونتفت من شجرة العائلة ألقابا وفق طريقة "انقارسكل" محولة بعض الأشخاص إلى مسوخ مجهولين لدى ذويهم ومنتحلين لشخصيات غريبة في نظر الغير فهم مُرقّعون يتقارعون مع موظفي مطارات وسلط الدول الأجنبية .. هم بالغون مبلِّغون ببلاغة نادرة عن "جُرمهم" إذ يحملون وثائق لا تمت بصلة لتلك التي شبّوا ولربما شابوا حاملين لها، لتكتمل اتراجيديا تجريدهم التدريجي من ذواتهم بتغيير تواريخ ميلاد بعضهم فيتحولون من زائرين للغير مسالمين إلى مزورين غير مسَلِّمين بذلك!! إنها أحجية موريتانية صرفة!!
لا شك أن "الحالة" الجديدة ورثت تركة ثقيلة من أخطاء "حالة" التحايل والحول القديمة والتي بلغت ذروة الفوضى رغم استحداث البطاقة الجديدة آنذاك والقابلة للتقشير فيما بعد، حتى إن مواطنا (م) كان قد انتدبته إحدى قريباته - من أعراب بادية الوسط الموريتاني - ليبحث لها حالتها لدى حلة "الحالة" القديمة وجد أن قريبته قد استخرجت لها بطاقة أنيقة باسم "سيسوغو"!!
كذلك فإنه من الإنصاف أيضا القول أننا أهل هذا المصر نعاني من فوضى فضفاضة تضيفنا إلى من قبلنا وتسمّينا بطريقة تجعل بعضنا ذا تشكيلة اسمية تشمل اسم الولادة ولقب الدلع وأسماء التنازع بين الأقارب والأصهار. من ذلك مثلا أن زيداً قد يكون "لِقْوَيْل" دلعاً و"إِفِكُّ" رقيةً و"الزّيْن" تفاؤلاً و "وُلْ أَهْلُ" حياءً و"اسْليْك" دفعاً للعين، وأما هند فلها "اتْشَيْشَ" دلعاً و"امحيجيبة" رقيةً و"الشيخ" تفاؤلاً و"هْوَيَّ" حياءً إن كانت أول العنقود و"لِخْبَيَّ" دفعاً للعين .. كما أن نسبة الأبناء إلى الآباء لا تخضع أحيانا لأي قاعدة حتى إن الأخوة الأشقاء ينسبون إلى مستويات أبُوّة مختلفة فهذا للجد وذاك للأب وهذا جامع للأب والجد.
كما أن فوضى الحالة المدنية على امتداد العقود الماضية جعلت استخراج الوثائق عملية سهلة فنشأ عن ذلك تعدد الأسماء الرسمية حتى خلال المراحل الدراسية، وفوق ذلك كله تأتي مشكلة ولعنا بالأسماء المركبة على شاكلة "الشيخ ديدي ولد سيد امبارك ولد راص أهل"!! حتى إن هيئة مانحة أجنبية قد استفسرت ذات مرة لدى إحدى مؤسساتنا التعليمية مبدية استغرابها من تزكية أكثر من شخص للمنحة المقدمة في حين أن الأمر يتعلق بشخص واحد، مما استوجب ردّاً من المؤسسة المرشِحة بأن المذكور إنما هو شخص واحد لكن له اسما ثلاثيا مركبا مثنى مثنى ...
بل إن الأسماء نفسها، حتى تلك المتفق عليها، تطرح إشكالات عديدة حين تكتب بالحروف اللاتينية. ذلك أن لكل منطقة منطقها فالبعض مولع بإشباع الضمة واواً والفتحة ألفاً فأحمدهم أحمدو وأحمدا ومحمدهم محمدو ومحمدا بل ويكتبون نون التنوين في محمدن ويختزلون ألف المد أحيانا كما في فَطِمةُّ (بتشديد التاء حتى يقضم المتكلم شدقه من فرط عضه على نواجذه) بدلا من فاطْمه، والبعض مفتون بالوقوف على المتحركات نحو عشتَ وابْنَتَ وصدْفَ وصدْفِ وصدافَ، والبعض يعشق المصغرات من أسماء الأعلام ومستعجمها، والبعض يتسمى بأسماء الآلات وحتى الطيور! لذلك، فإن البيئة الأصلية لأسماء أهل هذه البلاد مساعدة على حصول الأخطاء في التدوين واللبس في النسب.
لكن الوكالة التي أحيلت إليها "الحالة" المنحلة بلوائحها وحوائلها أضافت إلى طين تلك البيئة بلَلاً تمثل في تثبيتها لأخطاء جسيمة وبشكل رسمي بطريقة لم تراع أن آلافا من البشر قد نقشت أسمائهم (أكان ذلك بشكل خاطئ أو صحيح) في وثائق هامة وأدخلت بياناتهم في قواعد بيانات في أنحاء متفرقة من العالم، فكأن الخيار غدا محصوراَ بين الفوضى المرنة والنظام المتصلب بما يعنيه الخيار الأول – رغم مساوئه - من إمكانية تصحيح الأخطاء وما يعنيه الخيار الأخير- رغم حسناته - من استمرار في الخطأ .. فلعل الأمر أقرب للمقاربة التي تفيد بأن لا كبائر مع التوبة ولا صغائر مع الإصرار ..
ألم يكن من الأجدر بمصدري التعليمات الأخيرة أن يستبقوها بإشعار حاملي الجوازات القديمة السارية المفعول عبر نشرات الأخبار المحلية التي تكون باكورة موادها أحيانا عنصرا يتناول انضمام مجموعة مجهولة جملة وتفصيلا لأحد الأحزاب الزغبية المجهرية أو انفصالها عنه؟
أي "جهات عليا" يا ترى التي قيل إنها أصدرت تلك الطلقة غير الصديقة المفاجئة على مسافرين في كامل هندامهم توقفوا عند حاجز الأمن في المطار وشهودهم في ذلك مستفيضة وليس خبر آحاد مُتَكَلَّمٌ في رجاله، كما أن سرعاتهم كانت ضعيفة لما يحملون من أمتعة وربما هموم دفعتهم إلى الخروج لا إلى ضِيَع لهم بل للخروج من "ضيعة ضائعة" لا يستعيضون عنها لكن تواضع أوضاعهم فيها حملهم على هجرها ولو إلى حين؟؟!
جميل أن يكون لنا جوازات سفر ابوميترية - لا ندري أتتقشر أم تكون من ذوات الألباب – وحيوي أن نعيد إحصاء ذواتنا، لكن الأهم من ذلك أن نعرف كيف ندير ذلك بحِرفية متدرجة لا بحَرْفية متجردة .. كيف لنا الجمع بين "حالتنا المدنية" و"حالتنا العسكرية"؟ هلّا فهمنا أن إصلاح الحالة المدنية لا يتأتى بالوصفات الميكانيكية العسكرية .. وأن مفاتحه ليست مرقمة 10، 12، ...وإنما رقم واحد أساسي هو تفهم تعقيدات وضعنا الخاص المتشكل من تراكمات ممارسات إدارية خاطئة؟ وأن بدن هذه الأمة ليس مدرعا وأن عِصيّ ترويض المواطنين لحملهم على الانخراط في العملية قد أصبحت قضبانا في دواليب حراك العديد منهم في مناكب الأرض المأمورين بالسعي فيها؟