لاشك أن للوسائل الإعلام دورا مهما في تنوير الشعوب وإنارة الرأي العام حول كل قضاياه وهمومه، وهي سلاح ذو حدين في بناء الدول وتقدمها وتنميتها، وهي عامل هدم إذا تم توجيهها عكس الهدف الأول. وهي تعتبر أو توصف بمهمة المصاعب والمتاعب نتيجة لما يواجهه منتسبيها وممارسيها من مصاعب ومشاكل في سبيل توصيل المعلومة والبحث عنها خصوصا في دول العالم الثالث التي توصف انظمتها بالدكتاتورية والتعتيم علي كل شئ فيها .
و من أهم هذه العوائق القوانين التي ظلت سيفا مسلطا علي رقاب الإعلاميين ومقصا لكل ما يخالفه أولا يطابق هوي في نفوس الحكام والأنظمة . كما لعبت وسائل الاعلام دورا مهما في الكشف عن فساد الحكام والانظمة وفضائحهم ، ولذا فهي سلطة مخافة أو مهابة في الدول المتقدمة .
فكم من حكومة أو نظام لعبت وسائل الإعلام دورا اساسيا في اسقاطهم . ولذا فقد لقبت بالسلطة الرابعة حسب القاموس السياسي والمصطلح الإعلامي ، نتيجة للدور البالغ الأهمية الذي تلعبه هذه الوسائل في مراقبة عمل الحكومات وكشف اخطائها التسييرية . وكثيرا ما كانت تتذرع الأنظمة الدكتاتورية بذرائع غايتها هي قطع ألسنة هذه الوسائل الإعلامية وإلجامها عن فضح وتعرية هذه الأنظمة وكشف ما خفي من عيوبها ومستورها ، فكم من صحيفة تمت مصادرة أو إغلاقها نهائيا ومنعها من الصدور إلي الأبد ، وقل نفس الشئ عن المواقع الإلكترونية ...الخ.
وقد شهدت بلادنا في فترة التسعينيات وبداية الألفين مصادرة العديد من الصحف والجرائد بأسباب وبلا أسباب وكان السيف المسلط علي هذه الوسائل الإعلامية في تلك الفترة هو المادة 11 من قانون الصحافة التي امضت ما يقرب من عقد من الزمن شبحا يطارد الحصفين ويأرقهم في كل الأوقات ولأتفه الأسباب يتم منع ومصادرة الجرائد والصحف وهي اما تحت الطباعة أو بعد السحب . وتحت هذه العذابات بقي العاملون في هذه الوسائل الإعلامية يناجون المولي سبحانه وتعالي أن يرسلهم منقذ ينقذهم من مقص المادة 11 ، وبالفعل جاء انقلاب 2005 ، وخلال هذه السنة تم تنظيم أيام تشاورية بين جميع الفرقاء السياسيين وهيئات المجتمع المدني ، ومن ضمن ما تمخضت عنه تلك الأيام التشاورية هو إلغاء هذه المادة ، بالإضافة إلي إجراءات أخري تزيد من حرية الكلمة والقلم في البلاد ، وبعد ذلك توالت الإجراءات المعززة والمدعمة للحرية الإعلامية . وخلال هذه الفترة لم تكن لدينا لا محطات تلفزيونية والا إذاعية باستثناء التلفزة الوطنية والإذاعة وهما طبعا خاضعتين للنظام وليس لديهم من الشغل ولا الهم إلا تمجيد إنجازات القائد الملهم والإشادة بها وتضخيمها وجعلها في قالب ذهبي فريد من نوعه ، وجعل البلاد والعباد في بحبوحة من الخير العميم ، وكما هو معروف كانت وسائل تطبيل وتزمير للحاكم ولنظامه ولكل من جري في فلكه وحام حول حماه . وهي ممارسة افقدت مؤسساتنا الإعلاميتين المرؤية والمسموعة وكذلك المقروءة حتي ثقة المواطن .
ومنذ فترة تحاول هذه الوسائل أن تقنع المواطن العادي بضرورة تغيير نطرته اتجاهها وتثبت له أنها لم تعد كما عرفها وألفها ، وبأنها لم تعد تلفزة ولا إذاعة التسعينيات ولا حتي منتصف الألفين ، وأن كل شئ فيهما تغير المضمون والشكل والأفراد وأنها اليوم هي وسائل إعلام وطنية يعد شغلها الشاغل الآن هو المواطن والوطن وإظهار همومه وأنشغلاته إلي الجهات المعنية بها والمسؤولة عنها .
وبالفعل فقد لوحظ في الآونة الأخيرة نوع من التحرر في طرق المواضيع ونقاشها ، فقد أضحينا نشاهد في التلفزيون ونسمع عبر الإذاعة أشخاص كانوا إلي عهد قريب يعدون من الأشرار في هذا البلد وجعل منهم اشباح مخيفة وخطيرة يجب الابتعاد عنها ، وبالمقابل لم يكونوا هم انفسهم يحلمون أو يخطر ببالهم أن يكونوا في يوم من الأيام ضيوفا في إذاعة وتلفزيون وطنهم .
كما أن السلطات تعمل جاهدة علي ابقاء هذه المؤسسات علي خطها التحرري ، ولذا تسعي إلي فتح هذه المؤسسات ت امام والقطاع الخاص وذلك بالمشاركة في رأس مالها ، وهي خطوة إن تمت ستكون لها إيجابيات كثيرة لاشك . كما تم إنشاء هيئتين احداهما قديمة وهي السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية وهي المسؤولة عن إعطاء التراخيص للمحطات الإذاعية والتلفزيونية وتم انشاؤها سنة 2006 ومن بين مهامها :
• السهر على تطبيق التشريعات والنظم المتعلقة بالصحافة والاتصال السمعي البصري .
• دراسة طلبات استغلال محطات وشركات البث السمعي البصري ، وتقديم رأي بالموافقة على منح أو رفض أو تجديد أو سحب الرخص والأذون لاستغلال هذه المحطات والشركات .
• ضمان استقلالية و حرية الاعلام والاتصال و فقا للقانون .
• السهر على احترام النفاذ العادل للاحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني المعترف بها إلى وسائل الاعلام العمومية حسب الشروط التي يحددها القانون .
• تحديد قواعد انتاج وبرمجة وبث البرامج المتعلقة بالحملات الانتخابية .
• تشجيع وترقية التنافس السليم بين وسائل الاعلام العمومية والخصوصية ، المكتوبة والسمعية البصرية .
اما الهيئة الأخري فهي حديثة النشأة ودورها يتعلق بمراقبة البث التلفزيوني والإذاعي وتم انشاؤها أواخر 2012 .
لقد شهدت في الآونة الأخيرة بلادنا قفزة نوعية ومتطورة في مجال تحرير الفضاء السمعي البصري ، وهي بلاشك جهود محمودة ومشكورة للقيمين علي الشأن العام في البلد ، وهي من ما تمخض عنه الحوار الذي جري منذ عامين تقريبا بين بعض احزاب المعارضة والأغلبية الرئاسية .وفي هذا الصدد فقد منحت السلطات عدة تراخيص للبث للمجموعة من المحطات التلفزيونية والإذاعية بلغ عددها مجتمعا 10 محطات ( 5 تلفزيونات و5 إذاعات ). تم الترخيص لهذا الكم الهائل من الوسائل الإعلامية في مجتمع طابعه العام البداوة والتخلف ومازالت تنتشر فيه الكثير من المسلكيات والعادات الإجتماعية المناقضة للدولة العصرية .، وهذا أمر يجعل من هذه الوسائل الإعلامية أو هذه المحطات التلفزيونية والإذاعية أمام تحد صعب .
فهي إما أن تظهر للمشاهد أو المستمع والمتابع لأحوالها بأنها علي قدر كبير من الموضوعية والحياد والإستقلال في طرق مختلف القضايا والهموم التي تهم الوطن والمواطن ، لأن المواطن قد تعود علي وسائل إعلامية وحيدة تابعة للنظام وهي وسائل كان دورها محصور في التطبيل للنظام وإبراز إنجازاته ،.
وهي مسلكيات جعلت كل المواطنين يعزفون عن متابعتها ولا يثق فيما تتناوله من مواضيع وتقدمه من اخبار . لكن الآن يلاحظ تطور مهم في هذا الاتجاه فقد بدأ المواطن تتغير نظرته شيئا فشيئا اتجاه هذه الوسائل وهي - مكره اخاك لا بطل - فقد وضعت امام تحد ، بعد الترخيص لهذا العدد الكبير من الوسائل الإعلامية في شعب لا يتجاوز أو لم يبلغ تعداده حسب آخر التقديرات أربعة ملايين نسمة وتسوده الأمية ويسيطر الجهل والفقر علي الثلثين منه وتسود فيه القبيلة بشكل مفرط إلي حد أن بعض القبائل مازالت تعتبر أن النظام الذي يحكم البلاد هو نظامها هي لأن الرئيس هو ابنها ،- كان هذا في الماضي ومازال ساري المفعول إلي حد الأن- .
ومن هنا فإن اكثر ما نخشاه هو أن تتحول هذه الوسائل الإعلامية في غمضة عين من وسائل إعلامية حرة ومستقلة تهتم بهموم الوطن والمواطن وتعالج كل قضاياه بكل حياد ومهنية إلي وسائل إعلامية فردية وضيقة تتحكم فيها الخلفيات السياسية لأصحابها وعندها يتم توجيهها حسب ما يرونه هم وبالتالي تكون سلاحا موجه ضد البعض وسيفا مسلطا علي رقابه ، وعندها يصبح القول الشائع هو : إذاعة الفلانين وتلفزة الجهة كذا ... وكذا... !!! اللهم وفق الجميع لما فيه خير البلاد والعباد .
إذا ، في هذه الوضعية الحرجة من تاريخ البلد والبالغة الأهمية أيضا والمفصلية في وضعه بشكل صحيح علي السكة ، وفي وقت تتوق فيه الأنفس وتشرئب الأعناق إلي بناء مجتمع متآخ ومتحد ومتصالح مع ذاته تذوب فيه كل الفوارق الإجتماعية وكل العوائق والعراقيل التي تعيق بناء وحدته علي أسس طابعها العام والشامل العدل والمساواة باعتبارهما ، هما أساس الحكم .وانطلاقا من هذا فإن هذه الوسائل الإعلامية اليوم هي المسؤولة عن بناء وترسيخ هذه المفاهيم وغيرها مما يخدم البلد والوطن بشكل عام ، وهي أمور لا شك أن القائمين علي هذه الوسائل يدركون مدي جسامتها وليسوا بحاجة إلي من يذكرهم ، لكن ( احكم احكم ألا اتزيد احكيم ). ونرجو أن لا يكون كل ما تقدمه هذه الوسائل "سرابا يظنه الظمآن ماء " .