تأسست مدينة كيفة مع مطلع القرن العشرين و بالتحديد سنة 1907م في جنوب شرق البلاد ، و هي عاصمة ولاية لعصابة ذات المناظر الخلابة و التضاريس المتنوعة تنوع أسباب العيش فيها ، إذ تتعانق باسقات النخل مع قمم جبال لعصابة في مشهد بديع يذكر بحديث النخل ، كما تنبسط السهول و الأودية في أرجائها و قد جاءها المخاض بعد عشر عجاف .
و هكذا تعيش المدينة هذه الأيام أجواء خريفية متميزة ، حيث الماء و الخضراء في كل مكان .. و قلوب البسطاء المفعمة بالنقاء و البهاء و حب الوطن ترفل في دفء الأمل و التطلع إلى غد تشرق فيه شمس التحرر من الجهل و الفقر و المرض .
و اليوم تقف المدينة محدودبة الظهر في عز شبابها دون أن تلج الحداثة بمعناها الحقيقي بيوتها .. ذلك أن نسبة الوعي لما تزدد بعد .. و كأن التاريخ يظل دائما يعيدنا عقودا ليجعلنا نعيش مع أسلافنا حياتهم اليومية من صولات و جولات مبالغ فيها .
لذلك لاتزال المدينة ترزح تحت نير البداوة الهجينة ، فلا الأحياء مخططة، و لا الشوارع نظيفة مطلقا، بل باتت تتخذها قطعان البقر مراحا غير آمن برعاية ملاكها و مباركة من البلدية .
فيها يعاتبك نسيم عليل يهب كل حين على عدم التصرف حيال تعفن القمامة التي تفسد طيبه و عبق أريجه العذب .
في هذه المدينة تكتظ الأسواق غير المنظمة بالباعة و العربات و جباة الضرائب و المجانين .. إلا أن لباقة الأخيرين و ظرافتهم أكثر تحضرا و مدنية من سابقيهم .
في هذه المدينة لم يتغير شيء خلال العشرية الماضية ، بل العشريتين الماضيتين ، فلايزال العطش ساريا و الفقر منشرا ، و التملق سيمفونية سيئة الإخراج يعزفها الساسة و النخبة كلما كانوا على المحك "إلا من رحم ربك" .
في هذه المدينة المترامية الأطراف تصادفك المقابر بين البيوت محمية بسور متهالك و غير محمية ، و الأغرب من هذا كله وجود تلك المقبرة الكبيرة بين حيي القديمة و المطار في جوار لا يخلو هو الآخر من الغرابة مع سوق الحيوان و محطة النقل العتيقة .. و هنا ربما كنت شاهدا على ثور شارد يجتاز سور المقبرة في الوقت الذي تصلي فيه جماعة على جنازة ، و غير بعيد من ذلك ، يقف شرطي لا يأبه إلا لصرير أمعائه و هو يصفر لسائق يغامر أو لآخر يغادر ..
في هذه المدينة يشرفك البسطاء من سكانها بلين جانبهم و طيب حديثهم و سماحة أخلاقهم ، فهم لا يظهرون حقدا و لا ضغينة ضد المتسلقين على أكتافهم و بائعيهم في كل مزاد انتخابي .. و لكنك كلما جالستهم أكثر وجدت إعصارا عنيفا يتشكل تحت تلك القشرة الرخوة .
الحسن محمد الشيخ