أيام و ليال أخرسني فيها الأسى و الوجع و الضياع ، و وقع الحدث عن الكتابة ، و تملكني فيها الفقد و الحيرة و الهم و الألم و الأمل في إعادة تشكيل الأحداث .
رحل الأخ الغالي المصطفى ولد الشيخ و لم يعد ذلك الهدوء الحاني و الحديث الشجي الدافئ يتخلل المكان ، و غابت الإبتسامة الجميلة و الحياء و التواضع، و الرؤية الواضحة و اللغة العفيفة الجزلة ، و الكرم الطافح ، و الصدق و الأناة ، و حسن الاستماع و حلاوة المعاشرة ، و اللين من غير ضعف ، و اللغة المفحمة من غير تعصب و لا غضب .
عرفت المصطفى مذ أصبحت ضيفا على لعصابة ، و عرفت وجها طليقا و رجلا تنازعته كل الفضائل و كل الصفات الحميدة ، و ضببته ثقافته و مدنيته ، و صقلته مكارم الأخلاق و حسن الطباع .
أعلم أن الرجل ابن بئة تتوارث المكارم ، و سليل ينابيع سلسالة من الفضل ترافقت مع الأجيال ، و أعلم أنه تربى في حضن يفرض التميز سلوكا و تعلما و تفانيا في خدمة الناس ، لكنه مع ذلك نحت لنفسه طريقا ستبقى مغروسة في أذهان كل الذين عرفوه و الذين سمعوا عنه .
ستفتقدك الثكالى و الأرامل و الأيتام ، و يفتقدك أنين المرضى و آلام أصحاب الحاجات ، ستفتقدك الكلمات الجميلة المنسكبة لتسحر المسامع ، و الأحرف الذهبية التي ترصع اللغة و تمتع الأفهام .
واكبت أيام العزاء ، و الأيام التي تلتها ، و كشف الكم الهائل من الزوار ، و الأحاديث الكثيرة عن فضل الرجل و مواساته للناس عن مخزون آخر من سيرته المبهرة ، و كشفت الدموع المنهمرة من كل الناس ، و من كل الأجناس أننا أمام رجل عظيم فقده فقد أمه ، و رحيله فراغ في أمة.
الأحاديث و السيرة تسلينا أن الرجل قد رحل إلى الجنان ، فقد وجبت له لفضل و ذكره ، و مع ذلك نتألم لأجلنا و أجل من وقعت عليهم مفاجأة كالصواعق ، و آلمه كيف اختفى الرجل و كيف انه لن يعود .
قالت الصغيرة "أنٌه" إن أباها قد ذهب إلى الجنة ، لكن حيرتها و بريق عينيها لا يخفيان الإنتظار ، و هي لعمري حيرة تصيبنا بالألم في الأعماق ، و لا أخفيكم أنني ، مثل الصغيرة ، أستيقظ كل صباح على أمل أن يكون الأمر كله مجرد حلم مزعج سرعان ما ينقشع ليكون سراب ، لكنني في كل مرة أصدم أن ما أرنو إليه هو مجرد وهم يتبدد ، و أن المصطفى قد رحل ، و أن طريق العودة قد أوصد ، و أن ليس لنا إلا الدعاء .
لا يدرك الصغير "لمرابط" شيئا مما يدور حوله ، و سيتربى في أحضاء أمينة على مستقبله ، و سيكون فخورا ذات يوم بوالده و ما عرف به من فضل و حسن سيرة ، و لكننا في كل لحظة نتقاطع عليه النظرات ، لأن الأب كان يؤمل أن يراه شابا جلدا و قد تعلم و تربى على حسن الخلق و مواساة الناس .
رحل الأخ و الصديق فانهمرت الدموع و اختنقت العبرات ، و زاغت العيون و تاهت الكلمات ، و تأجلت عندنا كل المشاريع ، و تحول فجر لعصابة إلى ليل بهيم ، و تحولت ايامها إلى قطع من العتمة المضرجة بالآهات و الأنين ، و عزاؤنا فيه أنه قد وجبت له الجنة بما قدم لها من عمل شهد عليه الناس كل الناس . و إنا لله و إنا إليه راجعون ..
و لا حول و لا قوة إلا بالله .