علوت في إحدى ليالي الصيف المقمرة كثيبا عظيما، كان ينبئ شموخه عن قوة الريح و القحط أيام العشر العجاف، و عن جسارة الإنسان في ملحمته المصيرية مع الطبيعة، في هذا الركن القصي من الوطن العربي .
لم أكن أرى غير باسقات نخل تصارع من أجل البقاء، وقد غيبها الحرمان مثلي، و لا أسمع إلا هديل يمامة وحيدة ربما جاءت تلتمس الهدوء و النجاة مثلي .
هناك جلست أسترجع ذكريات الزمن الغابر ،و الضارب في أعماق التاريخ، لعلني أنتشل من مخيلة النسيان ذكرى جمعتني بحكيم مر من هنا أيام قوافل الملح .
في لحظات التأمل تلك، كنت أعبث بالحصى المخملي ذي الملمس الحريري الناعم ، و النظيف نظافة أيادي البسطاء من أموال الشعب .. أرسم خريطة وطن طالما فتشت فيه عن وجودي الذي بات مهددا، و عن نصيبي الذي مازال مبددا ؛ فلا أرى إلا قصرا منيفا كالغصة شيدوه على شاطئ الأطلسي .. لا يأبه ساكنه لأنات المرضى و لا لحاجات تقضى و لا لاستغاثة ملهوف .
تمنيت يوما زواله و مرة خرابه، و قلت في نفسي لو كان كذلك ما عدمت مسمارا أو مصباحا .
و تذكرت أن من اليأس قد تتحقق الأمنيات كما "من الظلم تولد الحريات" .
وجدتني أخجل من نفسي حين عيرني بنو الأصفر بضيق الأفق في التنمية و ضعف الترتيب في التعليم و عمى الألوان في الصحة .
فأحسست أنني لست أقوى إلا على الكلام و أنني -فعلا- ذكرى إنسان .. لا أعرف الحق و لا الواجب .. أحن إلى الأمس و أخاف من الصبح و لا أفهم سر حبي لاجترار النصوص و لا أسباب التقهقر و النكوص و لا -حتى- كم يجبى علي من الكوس .!
و غرقت في التفكير و احتسيت كاسات شاي مترعة، و كان البدر ينظر إلي و إلى خريطتي من خلال الفجاج .. من خلف سحب شاردة شرود الأمن الأمان ، ينظر إلي نظرة استعلاء و استهزاء .
حينها انتفضت و أعلنت انتسابي للأرض، و الدفاع باندفاع عن الكرامة و العرض، و مزقت كل شهادة دولية لطخت سمعتي .
و لما هممت بالعودة إلى ضوضاء المدينة، و خسيس خطاب الساسة، سمعت "ديلول" ينادي في الذاكرة من بعيد : - بلغ تحياتي الأحفاد، و أخبرهم أنني كنت أنشد العدل و أقري الضيف و أحب النوق و أكره الغدر و أحفظ العهد .. أخاف من بأس الحديد و أعاف الأسماك و أتطير من الذهب .
ففهمت حينئذ حرص حكوماتنا على حب أحفاد ديلول و -طبعا- من الحب ما قتل .
الحسن محمد الشيخ