من أحسن ما اخترعته الدول الإفريقية في العصر الحديث – ولا سيما بلادنا هذه– حفظها الله، كلمة “الوجيه”، فهي كلمة حسنة الوقع في الآذان، وخفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان؛ ميزان التعبير عن المكانة الاجتماعية لمن يتصف بها.
ومن أحسن ما في هذه الكلمة أنها تحيل إلى مفهوم عائم نسبي هو مفهوم الوجاهة، فهو مفهوم لا تتوقف مقوماته على توفر شروط واقعية ولا على انتفاء موانع معروفة ومنضبطة ، فقد توجد الوجاهة دون كبير عناء إذا عرف المترشح لها كيف يتصرف وإذا تمهد لديك هذا وكنت من المتشحين للوجاهة ، الراغبين فيها فخذ مني عشر نصائح – كالليالي العشر – إذا علمت بها أصبحت وجيها إن شاء الله على رغم أنف الكاشح والحسود ،إذا لم تعمل بها كنت على خطى أن لا تكون وجيها ، وإذا أطلقها عليك الناس مجاملة فانه إطلاق أقرب ما يكون إلى التهكم منه إلى دلالة المطابقة المعروفة .
وأعلم قبل كل شيء أن النسب الطيني لا دخل له في تحصيل الوجاهة البتة وأن الحديث الشريف : ” من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”، ينطبق في هذه الدنيا أيضا على الوجاهة فكم من عريق في النسب مردد في الطبول ترديدا ، وتناجلته ” السراويلات البيض ” من كل جهة ، وهو مع ذلك عار من الوجاهة ،عرو اللسان من الزغب ، تبرم الأمور وهو غائب ولا يستأمر فيها وهو شاهد ، وما ذلك إلا لأنه لم يعمل بعمل الوجهاء بل رضي من سيادته ونبله بأن يقال ” ابن فلانة وابن فلان “. ومعلوم أن رصيد مجد الآباء قد ينفد حتى يصبح حسابه أشد حمرة من عرف الديك وشقائق النعمان وروايات الصين ، فإذا كنت ممن يرغب في الوجاهة فلا تتكل على النسب وحده لأنه لا يكفي وحده أما الوصايا العشر التي وعدتك بها فخذها الآن من يد امرئ غير ضنين ولا ظنين . أولا ها أن تحافظ على الجماعة – ولا أعني جماعة الصلاة – بل أقصد جماعة بلدك أو بلديتك فنسق معهم ما استطعت في كل نازلة عامة أو خاصة بحيث يتفقدونك إذا غبت ويشاورونك إذا حضرت .
والثانية أن لا تفوتك أي زيارة رسمية يقوم بها مسؤول حكومي أو شبه حكومي لقريتك فكن له من أول المستقبلين وزاحم في السلام عليه ، زحامك على تقبيل الحجر الأسود ، واحرص على أن تنقل التلفزة صورتك للمشاهدين وأنت أقرب ما تكون منه .
والثالثة أن لا يفوتك مهرجان جامع أبدا ولا جلسة مهمة دون أن تتكلم فيها بشيء قل أو كثر ، ولا تنتظر حصول موجب للكلام ، فان ذلك منك خطل في الرأي ،إذ لا تنس أن العبرة ليست بما تقول بل المقصود مجرد الكلام لإثبات الذات وتأصيل القيمة وتأكيد الشخصية .
والرابعة أن تبذل وسعك وأقصى جهدك في أن يراك الناس على منصة الشرف في المهرجانات ، جد في ذلك بالغالي والنفيس فان من كان رجلا عرض الناس في المهرجان ، مجاورا للغوغاء ، يهب عليه ذفر عرقهم ، وتصك مسامعه جلبة لغطهم فلن يكون له الحظ في الوجاهة ابد الآبدين . والخامسة أن تكون فيك حدة معروفة يداريها منك الناس ويهابك لها الجاهل والحليم ، ويجاملك السياسي والمترشح للمناصب العامة .
والسادسة أن تحفظ أبيات عامر بن الطفيل العامري وتجعل الثالث منها هجيراك وتعمل به ما دام متماشيا مع مصلحتك والأبيات هي :
واني – وان كنت ابن ســـــــيد عامـــــر***وفارسها المشهور في كل موكب – فـما سودتني عامر عن وراثـــــــــــــــة***أبــــــــــــى الله أن أسمو بأم ولا أب ولـكــنــنــي أحمــــي حمـــاها واتقــي***أذاهــا وأرمـــي من رماها بمنكبــي (الأبيات)
والسابعة أن تترشح أو يسمع الناس أنك ترشحت للاستشارية البلدية وان تعذر ذلك فكن ” سيفة ” (رئيسا تقليديا ) فان تعذر كل ذلك فلا أقل من أن تكون عضوا في لجنة إدارية محلية أو رئيس مكتب تصويت أو عضوا في أحد الأهلة الحمر أو في جمعية آباء التلاميذ ، وإذا منع الله – تعالى – كل هذا فلا أهون من تلقى حاكم المقاطعة أو حاكم المركز الإداري كل خمسة عشر يوما ويراك الملأ خارجا من مكتبه وأنت مبتسم ولا يهم ما ستفاوضه فيه ، فإذا فعلت ذلك ثلاث مرات ، علم الحاكم انك وجيه حقا فعدك في الوجهاء وعاملك في المستقبل كما يعاملهم . والثامنة أن تتجافى نهائيا عن بعض الوظائف الدينية التي كان يمارسها “الطلبه” في العهد الاول ، فإياي أن تكون مؤذنا أو شيخ محظرة أو مؤدب كتاب فان هؤلاء انما يكتتبون غالبا من الأتقياء الأخفياء الذين دفنوا نفوسهم في أرض الخمول .
ومن هذه صفاتهم كيف يتأتى لهم أن يكونوا من الوجهاء . والتاسعة أن يكون لك دور مشهور ومكان مرهوب في جميع الحملات التحسيسة ولا سيما الانتخابية ، وهاهنا لابد من التنبيه على خطإ يرتكبه كثير ممن يظن به أنه من الوجهاء ، وهو الانصياع وراء كل ناعق وهو ما يفقدهم مصداقيتهم حيث لا يفرح بهم من يساندونه ولا يأسف على فراقهم من يعادونه .
والعاشرة – ولعلها بيت القصيد وفي ذلك الحساب – أن تتصف بحظ لا بأس به من “الانتهازية الذكية” ، تعرف به كيف تداهن وكيف تداحن ، وكيف تحرك الخيوط خفية ، وكيف تسرق من السراق وتقص من القصاص ، وكيف تعض كقملة القطيفة ، وكيف تأتي ذلك بوجه وهذا بوجه بحيث لا تفقد صديقا من أصدقائك ولا فردا من جمهورك . فإذا كنت – أيها الأخ الكريم – مضطلعا بهذه النصائح العشر عاملا بها فأنت الوجيه إن شاء الله ، وإلا فلا أراك لا حقا بالوجهاء ولو كنت كالوجيه ولاحق (الفرسين المعروفين) في شدة العدو وسرعة الركض ، إلا أن يكون لك بخت سعيد يقيل عثارك ويستر عوارك ، وما أنكرنا لله تعالى قدرة.
الاستاذ محمد فال ولد عبد اللطيف