ماء .. ماء ... و تتلاحق الإستغاثات و الصوت ينحو جهة الخفوت ، فلم يبق بالفم ريق ، و صار الحلق ملتهبا كشمعة رسمت طريقها نحو الأفول.
اقتربت الساعة و دجى الخطب و تسارعت نبضات القلب مهددة ما تبقى في النفس من حشاشة ؛ لحظتها تذكرت قربة كانت معلقة في جذع شجرة وارفة الظلال في الجهة الجنوبية من منزلنا ، و قطرات باعثة للحياة تنزل من بطنها في إناء وضعه أبي تحتها ذات صيف حار لسقاية عصافير يتهددها العطش كل حين .
تذكرت آبارا ما نضبت مآقيها في وجه مورديها بكرة و لا عشيا ، رغم الشح و الجفاف .. لقد كانت أسخى من حنفيات باتت كأعجاز نخل خاوية في بضع سنين .
تذكرت كيف انخدعنا حتى دفننا عصب الحياة داخلها ، يوم أخبرونا أن الماء سينساب رقراقا في طرقاتنا .
لقد كذبوا علينا و جعلونا نلهث خلف غيمة بدينة صعدت لتوها من المحيط في رحلة الشتاء و الصيف، لتمطر بعيدا ؛ بعيدا عن مضاربنا ، و ليس لنا من خراجها إلا السراب و الريح السموم .
كذبوا علينا و جعلونا كمن " شاف النو و افلت كربو "
فها هو شهر ابريل قد أماط اللثام مبكرا عن وجه عبوس جاف ، و كشر عن أنياب متعطشة للأذى ، متوعدا سكان مدينة كيفة بمزيد من العطش في صيف بدأ مع نهاية الخريف الماضي ؛ لتدق الكوليرا الناقوس و يطل التهاب السحايا من جديد ، و هو الذي خبر المنازل في سنوات خلت أمام صمت رهيب من السلطات .
لكن كذبة ابريل ستزدان هذه السنة بكل ألوان الوعود ؛ ذلك أنه كلما دنت انتخابات سيق الشعب مصفدا بأمعائه نحو سياط الجيوب و مقصلة الأخلاق ، و تنتهج معه السلطات -كذبا- سياسة الماء مقابل الولاء ، و هي تلعب على أنغام الحمية القبلية ؛ تلك التي مادامت تعشعش في الأذهان و تسلب العقول ببريق زائف سيظل المواطن يتسع و يشقى و يعيش على الأمل و السراب .
و لكن متى سنبقى نصفق و نطمئن لمن خدعونا ؟
أما آن لنا أن نعلم أنه كذب "السياسيون" و لو صدقوا ؟
و متى سأغتسل -أنا- من هذا الهذيان ، و أسمع زقزقة العصافير حول غدير كان على مقربة من بيتنا ؟
و متى يفيض "بلمطار" و تؤتي السنابل أكلها ؛ لتعود المدينة شامخة شموخ "سقطار" هادئة هدوء "السيف" دافئة دفء "القديمة" ؟ .
الحسن محمد الشيخ