تتوالى العصور في مرها محملة بصنوف الجبابرة والعتاة، والظلمة المتفننين في الغي والتجبر على البسطاء، متخذين منهم معبرا سهلا للوصول لغاياتهم دون أدني اعتبار لما يوده أولئك البسطاء ولا ما يستحقونه، إذ يرون أنهم ما هم إلا هبة من الله لهم يبلغون بها طموحهم اللامتناهي، مستبيحين منهم ما قدروا عليه ويستبقي البسطاء لأنفسهم أحلاما في مخيلاتهم لا حاجة للجبابرة بها ولا لزبانيتهم، لتظل الشيء الوحيد الذي لا تطاله أيادي الجميع، رغم نهمهم للسلب والنهب، وتتوالى العصور لتبقى الأحلام عصية على المساس بها لكن مع تناسل و تناسخ أصناف التجبر وزبانيته يبدو أن ذلك الاستعصاء قد تم إخضاعه أو ترويضه،
فما بات للمسكين حق أن يحلم بأمان، ويتلذذ بأحلامه بعيدا عن أعين الطامعين، فقد دخل الجلادون إلى المخادع ليزرعوا بدل الأحلام كوابيسا هي أثقل على البسطاء من أي معاناة ورثوها من تلاحق المتجبرين و زبانيتهم، كما هو حالنا اليوم فها أنا و منذ مدة يغزوني ذلك الكابوس المريع، كلما قررت التنحي جانبا و الخلود إلى مخيلتي حاصرني بمشاهده المرعبة المقززة متمثلة في اكتساء أرضي بنبات يأكله أغلب الناس فيورثهم عظمة في البنية حتى كأن الواحد منهم كالبالون حين يملأ بالهواء فينتفخ لأبعد الحدود فتراه قد أصبح شيئا مهولا يكاد يحجب ضوء الشمس،
وتتبدل الألوان في عينه ليحل السواد مكان البياض والعكس، فتنعكس الحقائق في نظرته للأشياء ليرى في كل دقيق عظيما، ويرى في كل عظيم دقيق، وينقلب السمع بنفس الوتيرة و ينغمسون في التهام تلك النبتة المقززة النتنة لينفجروا فجأة و كأن ضغطا شديدا قد تسلط على أجسادهم، فتمسحهم من الوجود بعدما غطوا على الوجود، لأفيق مرعوبا و لا تزال الروائح في انفي، والأشكال ماثلة أمام عيني لا تفارق مخيلتي وكأنني قد قدر علي عيش تلك المأساة في نومي ويقظتي وهو ما وجدت تفسيره لاحقا: حين قرأت مقالات في بعض المواقع الموالية بعدما تطوع أصحابها أن يكونوا من زبانية أحد ما فما أراهم إلا قد طعموا من ذلك النبات في كابوسي فغالوا في التعظيم و التبخيس في غير محلهما، إذ جعلوا من وطني بلدا آخر تقتدي به الأمم في التطور والازدهار، مما لا يوجد في أي مكان حتى أشعرني أنني من بلد آخر أو أنهم لا يتكلموا عن وطني الذي أعرف تناشق حبات الرمل في كل زاوية منه، لأوقن أن الزمان قد تطور فعلا وقد تم السطو على أحلامنا بعدما ظلت عصية على من سبقوا،
واليوم ها قد جاء من استباحها ليطاردنا حتى في مناماتنا الضئيلة من برح أوجاعنا و بتنا غرباء حتى في مضاجعنا المتهالكة، من كثر خطى العابرين علينا و عليها لكن خاتمة الكابوس كانت رغم فظاعة مشهدها مبشرة بزوال أولئك العابرين بأصنافهم، فما هم إلا قوارير قد ملئت هواء فتعاظمت فجاء من حاصرها وأجبرها على التحطم ليهرق محتواها ويغيبه لأقول لأولئك الزبانية المتسابقين لصنوف التطبيل والتصفيق، واللاهثين وراء النتانة والعفونة... غدا سنحطمكم ونفرغ محتواكم الرديء، لنستعيد أحلامنا و نتلذذ بها يقظة لا مناما .. تحياتي