سيصوت الناخبون في موريتانيا في الجولة الثانية من الانتخابات النيابية و المحلية طيلة هذا الْيَوْم- السبت الخامس عشر من أيلول سبتمبر- ، و سيكون عليهم انتخاب تسعة (٩) مجالس جهوية و نواب اثنتي عشرة (١٢) دائرة انتخابية، و مجالس بلدية لمائة و ثمانية (١٠٨) بلديات!
و رغم أهمية التصويت على النواب و المجالس الجهوية -المستحدثة حديثا- إلا أَن تركيزي -في هذا المقال- سيكون على المجالس البلدية، و ذلك لِما لَها من تأثير يومي مباشر على السكان من خلال فرض الضرائب و جبايتها و عدم تقديم خدمات مقابلها.
و منذ بداية الانتخابات البلدية الأولى في عواصم الولايات (١٩٨٦) و ما تبعها من انتخابات في البلديات الريفية (١٩٩٨) و حتى يومنا هذا ظل كثير من الناس يُطلقون على البلدية "بلية" مع حذف دالها "المهملة" تماماً كما قال الشاعر -عن الهوى-: إن الهوى لهو الهوان بعينه ** نسيتْ له نونا يدُ الكُتّاب!
و تُعتَبَرُ البلدية - و هي ما أعبّر عنه هنا بهيئتها المنتخبة -المجلس البلدي- مصدرا للأذى و الإزعاج بالنسبة للمواطنين في الوسط الحضري و الريفي؛ مما يستدعي التنبيه على الأمر و نقاشه و البحث عن حلول عاجلة له.
فبالنسبة للوسط الحضري تقوم البلدية بفرض ضرائب على المنازل و المحلات التجارية دون تقديم خدمات تُذكَر-كالتنظيف و بناء و صيانة المنشآت العمومية التابعة لها- و هو الشيء نفسه الذي تقوم به في الوسط الريفي حيث تفرض ضرائب على المساكن و الحيوانات و المزارع و النخيل دون تقديم مساعدة أو علف أو سياج أو ماء للمزارعين أو المنمّين!!
و غالبا ما يتم اختيار "المجلس البلدي" و رئيسه عبر توازنات قبلية و سياسية تفرضها السلطة الحاكمة ، و هُو ما يعني أن "المجلس البلدي" لا يسعى لخدمة المواطنين بل يسير في ركب "ولي نعمته" و يقتسم "المحاصيل" الضريبية و الهبات معه!
و قد رأى الناس كيف استهتر عمدٌ كثيرون بالمال العام و بنوا منه العقارات و اشتروا السيارات الفارهة، كما قام بعضهم ببيع بعضٍ من المداخيل الضريبية للبلدية -كضرائب المحلات التجارية و أسواق بيع الحيوان- لرجال أعمال مقابل مبالغ جزافية و رمزية-مع تزويدهم بالشرطة البلدية التي تُرغم المواطنين على الدفع، أو إغلاق محلاتهم أو احتجاز تجارتهم و مواشيهم -كي يقتسم رئيس المجلس البلدي ريع ذلك مع بعض هؤلاء- ممن دعموه في الحملة أو ممن يشترك معهم في مصالح خاصة!!
إن المصائب التي يتسبب فيها "المجلس البلدي" كثيرة ، و من ذلك -كما ذكرتُ سابقا- إرغام الناس على دفع ضرائب لا يحصلون على خدمات مقابلها، و قد حدث في بعض "المدن الكبرى" أن أمر محصل مشهور بإغلاق بعض المحلات بسبب عدم دفعها للضريبة، و اعتذر أهلها بأن البلدية لا تقدم لهم خدمات و أن "المحصل" منتخَب في "بلدية أخرى" و لا يجوز له "شراء ريع الضريبة" من البلدية المركزية ، و كاد القوم يقتتلون لولا تدخل بعض المصلحين!
و قد لا يكون الشاعر "التونسي" مبالغا في وصفه ل"المجلس البلدي" حيث يقول:
قد أوقع القلبَ في الأجسام و الكَمَد *** هوى "حبيب" يُسَمَّى "المجلس البلدي"!
أمشي و أكتم أنفاسي مخافة أن ** يعدّها عامل المجلس البلدي!!
ما شرّد النوم عن جفني القريح سوى ** طيف الخيال .. خيال "المجلس البلدي"
إذا الرغيف أتى فالنصف آكله ** و النصف أتركه للمجلس البلدي!
و إن جلستُ فَجيبي لستُ أتركه *** خوفَ اللصوص، و خوفَ المجلس البلدي!
و ما كسوتُ عيالي في الشتاء و لا في الصي***ف إلا كسوتُ المجلس البلدي
كَأَنَّ أُمِّي -بلّ اللهُ تُربَتَها- أوصتْ** فقالت: أخوك المجلس البلدي (...)
و إن أقمتُ صلاتي قلتُ مفتتحا ** الله أكبر باسم المجلس البلدي!
أستغفر الله -حتى في الصلاة غدت-*** عبادتي نصفها للمجلس البلدي!
يا بائع الفجل -بالمليم- واحدة ** كم للعيال و كم للمجلس البلدي؟!!
إن التجربة القاسية التي عاناها السكان من "المجلس البلدي" تقتضي منهم التحرّي و التشدُّد في اختيار المجلس البلدي الذي سيحتل "دار البلدية" و يسلب منهم أموالهم دون تقديم خدمات مقابل ذلك، ليبقى المستفيد الوحيد "رئيس المجلس البلدي" و بعض أعضائه المقرّبين و بعض "المورّدين" الذين يقتسمون الكعكة مع "المجلس البلدي"! و الذي سيترك المدينة مليئة بالأوساخ و الحُفر و الجيف، و لن يقوم بتنظيفها-جزئيا- إلا حين يزورها الرئيس ، و يكتفي "المجلس" بتنظيف الشوارع التي سيمر منها موكب الرئيس فقط ، أما غيرها فلا ينبغي تنظيفه؛ لأن المواطنين همج رعاع لا يستحقون -في نظر المجلس البلدي و لا السلطات الإدارية- أي احترام أو خدمات!!!
و بناء على ما سبق فينبغي أن نكرر معا -و بصوت واحد- قول الشاعر "المحلي":
شعبَ الكرامة لا تَرْضَ الهوان و لا ** تخضع لظلم و لكن كُفّ و اتّئد
و سِر إلى النصر لا تَرْضَ البديل به ** و خُذ بحقك لا تنقص و لا تزد!
فهل مِن العدل أن ترضى دمقرطة ** تُدارُ بالظلم و التزوير و الحسد؟!!
و هل مِن العدل أن ترضى دمقرطة ** تقول : لا لخيار الشعب في العُمَد؟!
كلا ! و إن رضانا لا مناصَ به ** لِمَن يُرِيد دخول "المجلس البلدي"
و عند يوم الترامي سوف نُشعلها ** حربا على الغش في بسالة الأسد
حتى يكون خيار الشعب محترما ** و يذهب الغير في الأدراج كالزّبد!!
إن "المجالس البلدية" في العالَم المتقدم تفتح أبوابها للمواطنين و تستمع لآرائهم و مقترحاتهم في كل المواضيع المطروحة، و تعقد اجتماعات علنية تسمح للمواطنين بالحضور فيها و المشاركة في النقاش ، كما تخضع هذه المجالس للمحاسبة الدورية من المواطنين، و يوجد فيها قسم لتقديم الشكاوى من كل المسؤولين و منهم "رئيس المجلس البلدي" أما عندنا فالمجلس البلدي امبراطورية متغولة تسعى لامتصاص دماء المواطنين و سَلب ممتلكاتهم -باسم القانون- و بقوة الإكراه التي تنفرد بها الدولة!!
لقد آن لشعبنا أن يعي التحديات التي تواجهه، و أن يختار مَن يمثله و يخدمه و لا يمنّ عليه ببعض ما يأخذ منه من ضرائب و جبايات، و أعتقد أن تأخير حسم كل هذه المجالس البلدية (١٠٨ مجالس) للشوط الثاني -رغم كثرة اللوائح- دليل على نضج الشعب و الناخبين الذين أصبحوا يريدون "مجلسا بلديا" يمثلهم و يخدمهم لا مجلسا يتحكم في رقابهم و يأخذ أموالهم غصبا -بمساعدة من السلطات الإدارية و الأمنية- و أعتقد أننا سنرى تزايد المساءلة للمجالس البلدية و التعبير عن السخط المتعلق بأدائها في المرحلة القادمة، و ربما التظاهر و الاعتصام حين تسوء الأحوال و يكثر الظلم و الغبن و الفساد!