يحار المرء حين يرى ويشاهد سلاحفة "أغلبية الكرسي" وهي تنبري في تجريب قدرتها على الكتابة بعد اكتشافها – أخيرا – لمكان الألسنة والأنامل من جسدها المخترق بالشائعات والتلون والغدر السياسي.
فجأة ودون سابق إنذار بدأت مقالاتهم تزحم المواقع وتزكم الأنوف، بعد أن دخلت في "أربعين التيه" لا تدري قبلا من بعد، متظاهرة بالفرح بظهور عزيز في الإليزيه وتأكيده على خيار الحرب في مالي، وحرصه على أخذ الرأي والمشورة من رئيس الدولة الاستعمارية في ذكرى أيام الثامن والعشرين من نوفمبر سنة 1960م، ومعرجين على المعارضة معتبرين أنها "كذبت" و"حنثت" إن لم تكن قد زادت ذلك، لتصور لنا أن كل المشاكل ومظاهر الأزمة قد انجاب ظلامها بمجرد ذلك الظهور الخاطئ في المكان الخطأ، لإعلان الموقف الغادر من الحرب المنتظرة في مالي.
نحن ليس لدينا ثأر شخصي مع عزيز، بل هو أخونا وأبونا نفرح لفرحه ونحزن لحزنه ونتألم لتألمه، ونحن فرحون جدا – على عكس أطراف كثيرة في الأغلبية – بتعافي رئيس الجمهورية، فليس من خلقنا الشماتة في الخصوم، أما العداوة فلا محل لها، ففي السياسة الخصومة فقط، دعَونا له عن ظهر غيب بالشفاء، باعتباره أخا وأبا ومواطنا موريتانيا، ووقفنا إلى جانبه عند أول لحظة – حين ذهب مدّاحوه اليوم لنقاش الوضعية الجديدة وطرح البدائل – وعلقنا أنشطتنا المناوئة له – في الوقت الذي روجت فيه مواقع محسوبة على الأغلبية موته السريري والانقلاب عليه – كنا صادقين مع أنفسنا ووطننا، بينما كنتم – يا من تتخذون عزيزا أداة للشقاق والنفاق – تتحينون الفرص وترابطون في عرين قيادة الجيش علّكم تسترقون سمع البيان الأول فتضمنون ولاء في أول اللائحة، فلا شك أنكم كنتم على استعداد – إن لم تكونوا خططتم بالفعل – لتقبل انقلاب يزيح عزيز عن سدة الحكم، لتلتفوا على صاحب الحظ التعس الجديد.
نحن كنا – عكس أطراف في الأغلبية - وما زلنا ضد حكم عزيز، لأنه أهلك الحرث والنسل وأفسد المال والأخلاق والحياة السياسية، عارضناه وطالبنا برحيله وتحملنا في ذلك كل النصَب والاضطهاد الذي يلقاه مثلنا من مثله، فعلنا ذلك ولم تبزغ بعد فجر الثالث عشر من اكتوبر ولا الشهر الذي قبله، إيمانا منا بضرورة تخليص موريتانيا من شخص لا يستحق قيادتها ويضر بها أكثر من ما ينفعها، عارضناه وهو صحيح القوى لأنه – في زمنه - أكل للمال العام، وهو مستبد برأيه، مفسد للحياة السياسية، لا يعرف حقا ولا يهتدي سبيلا، وكل هذه الصفات ما زالت موجودة فيه، ولم تنثلم منها واحدة وإنما – للأسف – زاد عليها خوَره وضعفه، والعقل السليم في الجسم السليم.
ليعد عزيز من باريس أو لا يعد، لا يهمنا كل ما يهمنا هو أننا – تأدية لواجب الوطن علينا – سنستمر في المطالبة بتنحيه عن الحكم وترك الأمر للسياسيين والمدنيين، فتلك مهمتهم، أما مهمته هو فقد كانت – قبل الاستقالة من الجيش – في الدفاع عن حوزة الوطن – المستباحة – وأمنه – المفقود – وصد العدوان الخارجي – القائم – عنه، وقد فشل فيها، وهو قطعا غير مؤهل لإصلاح معارج السياسة وتعرجات الاقتصاد، فلتك فرسانها وجذيليوها.
إن التنكيت على مواقف المعارضة المطالبة بـ"سد الفراغ" غبي جدا، فهو تنكيت – أكبر – على حكومة دولة ديمقراطية – كما تقول – تطلق على رئيسها رصاصة، فتسوغها – في ليلتها الأولى - بكلام لا تنهض له حجة ولا يقوم له دليل، ثم يكون الحدث بعد ذلك "حلم أبكم" لا يأتي من أخباره إلا ما كان شائعة أو من مصدر خارج الجهاز الحكومي، فلما ذا لا تطلعنا باستمرار حكومتنا الديمقراطية على وضع "الرئيس المنتخب"؟ ولما ذا نلجأ إلى الشائعات إن كانت هناك مؤسسات حقا تهتم بالمواطن وليس بالمواطن رقم واحد فقط؟، إن الحكومة هي المسئولة عن الشائعات والشائعات المضادة، إن لم تكن هي من أطلقها أصلا، وذلك بتغييبها للحقيقة، ثم إن مجرد ظهور الرئيس في مقطع مصور يتهجى كلمات تفوح منها رائعة الرصاص والبارود مع مستعمر غاشم، لا يفهم منها "سد فراغ" عشناه طيلة التيه الذي يفصل بين إطلاق الرصاصة وإطلاق الرئيس، فهل يستطيع الرئيس قيادة بلد متشعب المشاكل، في مهب رصاصات إقليمية قد لا تنفع فيها مستشفيات باريس التخصصية؟ لينتظر من عارض حكم عزيز فقط بعد سقوطه مضرجا بدماء الثالث عشر من اكتوبر، أما نحن فقد عارضنا الرجل وزئيرُه يملأ المكان، فكيف لا نستمر في معارضته وهو بالكاد يسمع صوته وتُعد خطواته؟
أخيرا أود أن أسأل الغيورين على "دين " جميل منصور، لم لا تغارون على "دين" عزيز الذي أقسم أيمان جاهدة، شهدتها طائفة من المؤمنين، على العدل بين الرعية – ولم يوف يمينَه – والسعي إلى إقامة ديمقراطية حقيقية – وقد وأَد ما كان منها – وإرجاع موريتانيا إلى دورها الدبلوماسي القائم على الالندّية ورعاية السلام الإقليمي والدولي – وقد أعلن تبعيته فرنسا في الحرب على مالي -، بينما أقسم جميل على عجز عزيز عن القيادة الوطنية – وهو على بر حتى الآن – فليس بالخروج وحده على درج الإليزيه في يوم ووقت مختارين يكون رجل مريض قادر على إدارة ملفات دولة همزة وصل بين حضارتين، تحيط بها الأعداء من كل حدب وصوب.
أخيرا طيلة غياب الرئيس لمسنا تحسنا في الجو العام، فلا أسعار البنزين زادت، ولا حدة الخطاب بين الأغلبية والمعارضة طفت، ولم نسمع عن صفقات ينهب فيها البلد، فهل ستستمر هذه "الإنجازات"؟ أم أن "الشماعة" التي يعلق عليها هذا قد عادت؟ أرجو أن لا يكون عزيز أداة في يد مصاصي دمائنا، فدماؤنا – حتى لا ينسى – هي أول ما أسعفه حين كان طريح سرير المرض في المستشفى العسكري، فدماؤنا إذا غالية سيدي الجنرال.