أخيراً ظهر الرئيس ولد عبد العزيز بعد فترة غياب طالت لأكثر من ستة أسابيع، نشر خلالها أنصارُه الكثيرَ من التسريبات السلبية حول وضعه الصحي، وحول تحضير بعض الجنرالات للتخلص منه؛ مما أوحى بأنه أصبح عاجزاً ولن يعود بإمكانه ممارسة أي مهام عمومية، وأنه فقد ظهيره العسكري. وأكثر من ذلك فإن الموالاة التي حاولت أن تلصق تهمة نشر الشائعات بالمعارضة، وبدلا من حشد الدعم والتأييد لرئيسها المريض، راحت تتصارع على تركته، واستخدمت في ذلك أوراقاً مثل العرق والقبيلة والجهة، إلى جانب الاستفادة من "الخبرات الانقلابية" لدى عدد غير قليل من رموز الموالاة. ومهما يكن من أمر، فثمة ثلاث دروس يمكن استخلاصها من تجربة مرض الرئيس وغيابه: الدرس الأول: أن الموالاة ظهرت وفيةً لتاريخها ولفلسفتها في تأييد الجالس على كرسي الحكم. ولأنه في حالتنا هذه لم يصدر البيان رقم 1 بإزاحة الرئيس من الكرسي، وإنما بدا وضعه مترنحاً وضعيفاً، فبالقدر نفسه بدت الموالاة مترددة وحائرة. لقد فقدت صوتها لأول مرة؛ فلا ولد عبد العزيز قد تأكد خروجه نهائياً من الحكم لتهاجمه وتتبرأ منه، ولا الرئيس البديل عنه قد تحدد اسماً ورسماً لتؤيده وتتقرب إليه. لذلك بقيت تلك الموالاة المتوارثة بين الرؤساء المتعاقبين، ترواح مكانها طيلة الأسابيع الخمسة المنقضية، تائهةً في منطقة انعدام الجاذبية، أو بالأحرى انعدام الموقف والرؤية (هل أضيف المبدأ؟)! أما الدرس الثاني فهو أن غياب الرئيس واختفاء شخصه عن الأنظار، كان أمراً كاشفاً أظهر حقيقة افتقارنا للمؤسسات وآليات العمل المؤسسي، إذ لدينا موظفين ينفذون أوامر الرئيس ويقيسون نجاحهم بمدى امتثال أعمالهم "العمومية" لرغباته الشخصية، وليس لدينا موظفون عموميون. خلال فترة غياب الرئيس لم تتوقف قرارات التعيين وزيادة أسعار المحروقات فحسب، وإنما أيضاً الكثير من الأنشطة الاعتيادية التي ينبغي للحكومة مواصلتها روتينياً، إن بحكم العادة أو بقوة الدفع الذاتي في أي بناء مؤسسي. وسبب ذلك باختصار أن ممارسات الرئيس المأخوذ بخلفياته الانقلابية، قضت على أي بعد مؤسسي في المجال العمومي. قد يقول قائل هنا إن الوزارات والمؤسسات العمومية لم تغلق أبوابها، دون أن يعلم أن الصومال الذي سقطت السلطة المركزية فيه وانهارت كلياً منذ نحو ربع قرن، ظلت الكثير من هياكله الإدارية والصحية والتعليمية تواصل عملها دون انقطاع، أما في حالتنا الموريتانية فيقال إن تهريب العملات الصعبة وحده استمر بلا توقف، بل تضاعف خلال الفترة المذكورة. أما الدرس الثالث والأخير فيتعلق بالمعارضة، والتي كانت الطرف الوحيد الرابح سياسياً وأخلاقياً من المحنة الشخصية لولد عبدالعزيز. فمباشرة عقب الإعلان عن إصابة الرئيس بـ"النيران الصديقة"، بادرت المعارضة إلى تعليق كافة أنشطتها الاحتجاجية، معربةً عن التعاطف معه ومتمنيةً له الشفاء. واعتبرت ذلك واجباً وطنياً وأخلاقياً. ثم طالبت بتقديم توضيح رسمي حول الموقف: الملابسات الحقيقية للحادث، والوضع الصحي للرئيس، والجهة التي تدير البلاد في غيابه (الجيش أم الحكومة أم طرف ثالث). وبعد ذلك استأنفت المعارضة حراكها الاحتجاجي للمطالبة بالتغيير والرحيل. وأظهرت تماسكاً داخلياً وتمسكاً بمواقفها السابقة وبنهجها السلمي في فرض التغيير، والذي تراه يبدأ بقطيعة سياسية مع الحكم العسكري وافتكاك إدارة الشأن العام من أيدي أصحاب النياشين. وفي ذلك ترجمة لقناعة عامة ترسخت على مدى الأعوام الأخيرة، وانعكاس لمزاج سائد حالياً في العالم العربي يرى أن إحدى أفدح علل التخلف هي تسيس العسكر. وقد نجحت المعارضة الموريتانية في إحكام التضافر المنطقي بين مطلب الرحيل ومقدماته؛ أي تنكّر السلطة لاتفاق دكار، وعجز الرئيس عن الوفاء بوعوده الانتخابية (قبل إصابته)، بما في ذلك الحد من مشكلات الغلاء والفقر والبطالة والفساد والجريمة. لذلك يمكن القول أخيراً إنه ربما يتعين على ولد عبد العزيز الآن أن يفك الارتباط نهائياً بموالاته الحالية، وأن يغير نهجه الفردي في الحكم وإدارة البلاد... وعلى المعارضة أن تواصل الضغط من خلال الحشد الشعبي للتغلب على الآفتين الآنفتين.