في كل مرحلة من مراحل نموها ، فإن كل جماعة منظمة سواء كانت مقاولة أو حزبا سياسيا أو دولة ، يفترض أن تكون رتبت بشكل مسبق خطوات المرحلة الموالية ، تحت طائلة الإخفاق الذريع في بلوغ أهدافها .
فمنذ الولادة يَظلًُ منحنى نمو هذه الهيئة مرهونا في صعوده و اطراده باليقظة الدائمة من قبل القائمين على هذا النشاط .
وسواء أقررنا بذلك أو تجاهلناه فإن بلوغ هذا الكيان سن الرشد لا يتأتى إلا إذا كانت الخطوات السابقة قد فتحت الباب للانسياب إلى المحطة التالية بعد أن نكون استجبنا لكل تطلباتها .
إن أي انحراف عن هذا الخط يفتح على الفور أبواب خيبات الأمل التي تقاس الخسائر المترتبة عليها بحجم العمل غير المكتمل . ولك أن تقيس فداحة والطابع الكارثي لمثل ذلك إذا ما تعلق الأمر بالدولة ، الهيئة الأعلى لتنظيم المجتمع .
و إذا ما بلغ النشاط الذي يقام به حالة الانسداد تلك ، فإنه لا مناص إذ ذاك من تدخل عامل خارجي وقوة خلاقة قادرة على تصور الحلول المطلوبة وتقديم الترياق المناسب للعمل .
إن هذه المهمة تقع مسؤوليتُها بالكامل على النخبة المثقفة و الطبقة السياسية . إنها دين ما زال معلقا في رقابنا ولا بد من سداده لشعبنا !. إننا نحن ذلك العامل الذاتي في أدبيات التغييرالذي توكل إليه مهمة قراءة معطيات الواقع المعيش و إنارة الطريق ونقل استنتاجاته للآخرين كي يتعاون الجميع على خلق الظروف الموضوعية لإنبعاث الحياة في ربوعنا .
وفي ذلكم إياكم أن تنصبوا أنفسكم أساتذة معلمين أو شيوخا واعظين أو أن تبقوا أعينكم مُسَمًرَةً على المرآة الخلفية لأحداث تاريخنا حتى الحديث منه التي تعكس لكن بلا رجعة الخضات الجماعية التي هزت في أوقاتها كياننا مهددة إياه بالزوال .
إن شعبنا ينتظر منا اليوم أن ننير له الطريق ، أن نبصره في أمور حياته التي وضعتها الأزمة الخانقة التي نعيشها في مهب الريح .
علينا أن نبدأ أول ما نبدأ في عيش ربيعنا السلمي وتغييرنا السلس نحو الأفضل دائما بفتح منتدى وطني شامل تشترك فيه كل الحساسيات السياسية والاجتماعية و الإثنية لتبادل الأفكار والتصورات للخروج من حالة الانسداد المطبق التي نتخبط فيها منذ أمد ، كي نوفق بإسناد من الله وعون منه تعالى في وضع حد نهائي للعود الأبدي للانقلابات الظرفية والدائمة والمخاتلات السياسية و المالية في ظل ترك مجتمعنا يرسف في قيود الفقر والجهل و الحيف وعدم الإنصاف .
إن ما يدفعنا اليوم إلى الإلحاح على قيامة جموع المثقفين هو ضرورة إنقاذ الأمة من حالة الشلل التي تكبل حياة شعبنا والتي إن دامت تنذر بتلاشي الدولة التي لما يزل بعد الوعي بها جنينيا بسبب التجهيل المتعمد وفشوُ ثقافة تسفيه الثقافة والمثقفين .
لقد آن الآوان كي نضع قدراتنا الفائقة على التحليل والتصور والبحث الدائب عن الجديد،تحت تصرف المرحلة الدقيقة التي نمر بها لإخراج بلادنا من عنق الزجاجة الذي تردت فيه بسبب تراكم الإجراءات غير الدستورية و الطابع الفردي لسوس أمورها .
ولقد تسبب تفاقم الأزمة في إطلاق عشرات المبادرات وشحذ الأذهان و المخيلات بحثا عن حلول توصلنا إلى بر الأمان دون جدوى لأنها سلكت في مساعيها نفس الطرق العتيدة التي لم تعد مناسبة في الوقت الراهن ... لقد أعوزها ، لتكون ذات جدوى أن تكون أًسبقت بتشاور واسع وتبادل مثير للآراء واحتكاك للأفكار قمن أن تنقدح منه الحقيقة التي يقبل بها الجميع .
إن ما نحن فيه اليوم من تيه سياسي ودستوري يفرض على المثقفين الأحرار و المتحزبين ورجال السياسة الوطنيين أن يرفعوا هممهم وهاماتهم إلى مستوى أحداث الساعة ويرتقوا قبل أي انشغال آخر إلى ذرى العطاء لشعبهم بأن يبصروه بمجريات الأحوال في وطنهم وما يترتب عليهم القيام به من أجل رفعة ومنعة بلدهم الذي تتهدده الأخطار من كل الجهات .
لتحقيق ذلك علينا أن نتسلح بالتحاليل الصائبة لتمظهرات الأزمات التي نعيشها والتي يأتي في طليعتها كوننا نساس منذ أزيد من ثلاثة عقود من قبل نظام عسكرتاري كلما عنّ في الأفق بريق أمل في التغيير الديمقراطي في بلادنا يأتي ويئده ... هذا النظام الذي لعب منفردا الوقت الضائع في مباراة كان فيها المدرب والحكم واللاعب الذي يسجل الأهداف .
وفي الواقع المر ، فإنه ما كان لنا أن نضام بهذه الأشكال ، إلا جزاء وفاقا لتلكؤاتنا وسكوتنا أحقابا و آمادا عن الحق.
لقد أزفت الساعة الآن التي نتكاشف فيها مع إخوتنا في المؤسسة العسكرية لندعوهم إلى الخروج من الظلام وهجر الكواليس التي يصدرون من خلفها الى الحكومات المدنية في هذا النظام الهجين الذي لم تتحدد بعد هويته ، توجيهاتهم التي تفرض على الأمة بلا تشاور و أحيانا كثيرة بلا حق إطلاقا في الإنتقاد . وتكون الحكومات المدنية في ظل هذا النظام مجرد صك شرعنة له وهي وحدها المسؤولة عن الأخطاء في حلقة مفرغة لتناوب سرمدي بين أفراد رفقة واحدة في نظام استنفد قبل نصف قرن طاقاته على العطاء .
و إذا كان الجيش لم يُخف عام 1978 أهدافه في الإحتفاظ الدائم بالسلطة بوصفه " الضامن للشرعية الوطنية " فإنه في عامي 2005 و 2008 تخابث معنا و أخفى لعبته بأن أعادنا دون أن نشعر إلى نقطة البداية .... تماما كما يحاول في أفق انتخابات افتراضية هذه السنة أن يعيدنا إلى عام 1992 ينصب برلمانا ذا لون واحد معولا على أن المعارضة سوف تقاطع وبذلك يصفو له الجو للقذف بنا في المجهول الذي نتقلب الآن في دياجيره .
إن انغماس الجيش في الشأن السياسي يشكل قسطا وافرا في المسؤولية عن تردي أحوالنا كما أنه قد جنى على الجيش نفسه الذي فقد قدرا كبيرا من مهنيته وقدرته على الحفاظ على أمننا العام والخاص . وما أحداث 13 أكتوبر المؤسفة إلا دليل ساطع على ما نسوقه بمرارة عن واقع يفقدنا سكينتنا و الطمأنينة في وقت تقرع فيه طبول الحروب على حدودنا من كل الجهات .
لهذه الإعتبارات وغيرها كثير على المثقفين الوطنيين ورجال السياسة الحزبيين وغير الحزبيين وممثلي قواتنا المسلحة أن يبادروا إلى التلاقي في أقرب الآجال لتبادل الرأي حول دور و مكانة الجيش في بلد سائر في طريق الدمقرطة .
وإذا تبين خلال هذا اللقاء أن الجيش مصر كل الإصرار على الإحتفاظ بالسلطة لأن لديه القوة والسلطة منذ ثلاثة عقود من الزمن فإن الأمة كل الأمة ستعلم بالأمر فتقبله أو ترفض بكل إباء وشموخ دركنة ( نسبة إلى الدرك ) حياتها إلى الأبد .
و إذا كان تقاسم السلطة بين العسكر والمدنيين هو الحل الأمثل فنعما هو وستمكن التشاورات من وضع أسسه وتحديد آليات تمفصله .
أما إذا ما اتفقت الآراء على أن المخرج الوحيد المتاح هو عودة الجيش إلى ثكناته فعلى الجهات المشاركة في التشاورات أن تضمن للجيش مكانته الرفيعة في حياة الأمة وتحدد معه بلا مواربة قواعد العلاقة بين الطرفين .
لقد تسببت إدامة الغموض الذي يلف دور ومكانة الجيش في إشاعة الخلط المتعمد في المفاهيم الذي تحول بفعله إنقلاب عسكري إلى ثورة و إنقلاب ثان إلى تصحيح وثالث إلى ديمقراطية ناجزة تبين بعد تبدد الأبخرة أن النظام ليس ديمقراطيا البتة و أننا بلدا سائرا في طريق الدمقرطة من ضمن مجموعة كبيرة من الدول ذات الإحتياجات الخاصة جدا إلى الديمقراطية التي هي تتويج ينقح مع الزمن بجهود الإنماء السياسي .
لقد جاءت ساعة نقوم فيها بوقفة تأمل نراجع فيها ذواتنا ونفكر ملء عضلاتنا الذهنية في مصير بلدنا ننتقد مسلكياتنا ومسيراتنا السياسية لتجديد رؤانا و اختياراتنا .
ولن يتأتى ذلك إلا إذا شمرت طبقتنا السياسية عن سواعد الجد و الإخلاص للوطن وتشيح بوجهها و اهتماماتها عن تلك اللعبة التي جرتها إليها الأنظمة السلطوية للتصارع الصرف حول السلطة . إن هذه الدوامة لم تبق للمعارضة متسعا من الوقت يخصص للتفكير بإجهادها و إفراغ طاقاتها في معركة هي الخاسر الأوحد فيها لأن حالة الإستبداد المزمنة تجعل من سابع المستحيلات التفكير في امكانية الوصول إلى السلطة في ظل هذه الأنظمة عن طريق التناوب السلمي .
ولقد تمكنت هذه الأنظمة من زرع ألغام كفانا الله حتى الآن شر اشتعال فتيلها جعلت المعارضة في بعض الأحيان تعارض المعارضة وقوى ديمقراطية تقف في وجه ديمقراطيين آخرين .
ورب ضارة نافعة ، فإن حالة الإنسداد الشامل والخانق الذي يقف حائلا في وجه التناوب السلمي على السلطة وتعرية الطابع غير الديمقراطي للنظام في ضوء الأحداث الأخيرة أسهمتا إلى حد بعيد في إزالة الغشاوة عن عيون الطبقة السياسية التي كان جزء منها يتصرف كما لو كان معارضة ديمقراطية لنظام من ذات الطبيعة الديمقراطية .وبعد سقوط الأقنعة ، حان الوقت لإعداد عرائض تشتمل على حلول للأزمة الراهنة وتتضمن استشرافات واضحة للمستبقل المنظور والبعيد من شأنها أن تحشد فئات شعبنا التي هي ضحية التهويش والتضليل اللذين مارسهما ضدها ، بين أمور أخرى نظام أبدَى مهارة مبهرة في التكرم بيد والسلب بالأخرى .
ولتحقيق كل هذه المبتغيات ، علينا أن نتخذ الخطوات التالية :
ـ إطلاق مرحلة إنتقالية محايدة لا تتدخل في أعمالها أية سلطة من شأنها أن تؤثر بأية طريقة كانت على قراراتها .
ـ تنظيم منتديات عامة في شكل نقاش وطني شامل حول أولويات قضايانا التي يتوقف عليها مصير البلاد وتسمح لنا مواردنا من مواجهة تكاليف إيجاد الحلول لها .
وستمكن النقاشات من وضع سلم لأولوياتنا الوطنية و الخوض معا بصراحة وصدق في المسكوت عنه حتى الآن من قضايانا الحيوية كالمسألة الإثنية والفوارق الصارخة في مستوى المعيشة في بنياتنا الإجتماعية المتخلفة .
مثل هذا الإجراء حري أن يبعث في قلوبنا الطمأنينة ويريح بالنا جميعا لنتفرغ لبناء يسعد فيه العربي أيا كان لون بشرته والبولاري والسوننكي والولفي لشعورهم بالإنتماء إلى وطن واحد ويضعون بذلك حدا لهذه الصورة المشينة التي تعكس لنا وجود مُوريتانين تسير كل واحدة منهما باتجاه اضمحلال و تلاشي وجودنا .
ـ تنصيب حكومة توافق وطني تتكون من رجال ونساء أكفاء ومستقلين .
ـ إنشاء جمعية تأسيسية تعد دستورا جديدا على أنقاض وثيقة لا يعمل بها وقد تعرضت لترقيعات غير موفقة جعلتها غير مقروءة ولم تعد تلبي حاجيات مواطنينا الذين غدوا أكثر تعطشا للعدالة و المساواة والإنصاف .
ـ إنشاء لجنة انتخابية وطنية تقوم على أساس معايير الحياد والنزاهة التي تضمن سير أعمالها على الشكل المطلوب .
وحسب تقديرنا وحسب المراجعة التمحيصية لتاريخنا الإنتخابي فقد تبين لنا أن الإستحقاقات من الآن فصاعدا لن تكون مجدية وذات صدقية إلا إذا تم تنظيمها على أساس تزامن الإنتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية الذي يشكل مع اعتماد مبدأ المأمورية الرئاسية الواحدة غير القابلة للتجديد صماما الأمان الذي يحول دون عودة الرئيس المنتهية ولايته إلى مقاليد السلطة من جديد يلهيه إنشغاله بالسعي وراء الإنفكاك من العقاب عن الإهتمام بقضايا المواطنين ويضطر للبقاء في كرسيه إلى التزوير في الإنتخابات وشراء ذمم الناخبين بالمال العام .
وأيا ما تكون خاتمة المطاف في ما يجري أمام ناظرينا من أحداث ، فإن هذه النظرة المتجددة إلى الشأن العام يجب أن تكتمل عبر النقاشات في اللقاء المرتقب من أجل إعادة بناء كينونتنا الوطنية من خلال مراجعة بنياتنا الدولاتية وتحقيق وئامنا الوطني. وكخطوة أولى على هذا الطريق ، على كل أؤلائك الذين استنهضتهم هذه المنطلقات أن يتواصلوا فيما بنيهم و أن يتصدوا معا لهذه المهمة النبيلة المتمثلة اليوم في تخليص موريتانيا من الأوحال التي تتهاوى فيها وتنقذ شعبها من الأخطار المحدقة به من الداخل ومن الخارج .