تميزت العملية السياسية بمقاطعة تامشكط خلال جميع المراحل التاريخية التي أعقبت الاستقلال بالمواجهة والصدام الدائم بين المكونات القبلية القاطنة بهذه المقاطعة؛ بدء بالصراع على الحظوة والنفوذ داخل حزب الشعب ،ومرورا بهياكل تهذيب الجماهير وانتهاء بالارتماء في أحزاب السلطة على تتابعها في عهد التعددية السياسية وحتى اليوم. !
وقد كان لتلك الصراعات العقيمة انعكاسها الكارثي على الحياة العامة إذ تحول الهدف من الانتخاب واللعبة السياسية برمتها إلى شيء واحد وهو أن تحل الهزيمة بالفلانيين وأن ينتصر الفلانيون وعندها تكون العملية السياسية قد أتت أكلها كاملا، واستكملت أهدافها غير منقوصة، ولذلك تحرر المنتخبون من أي ميثاق او التزام أخلاقي اتجاه الجماهير يوجب عليهم العمل لصالحها لأنهم فرضوا فرضا من طرف السلطة والقبيلة. !
لذلك لم يُنتج السكان من وراء ذلك غير الفقر والتخلف والفرقة وإفساد ذات البين، وكان كل ذلك يجري برعاية الوجهاء والأطر وبمباركة السلطة التي تجعل من الصدام الأهلي الوقود الذي يدفع الناس دوما إلى خياراتها.
Ť لقد حرم ذلك النمط السياسي الرديئ بكل المقاييس تلك المقاطعة البالغة الأهمية تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا من تبوء مكانتها المناسبة داخل طابور المدن الموريتانية فلم تشهد أي برامج لمكافحة الفقر ولم تستقبل مشاريع تنموية تعود بالفائدة على السكان، ولم توجه إليها الحكومة أي استثمارات أو مرافق خدمية أو بنى نفعية ؛ فظلت رهينة العزلة و استقرت طيلة العقود الماضية على هامش الحياة، ولم يعد يخيل إليك أن هذه المقاطعة هي في الحقيقة جزء من هذا الوطن إلا بعد بصيص الأمل الذي ولده افتتاح خدمات المياه والكهرباء على ترهلها بمدينة تامشكط ثم مجيء شركات الاتصال أخيرا.
وإن المتتبع لتاريخ المقاطعة ، المراقب لصيرورة الأحداث بها لا شك يكتشف أن الأسباب الكامنة وراء تلك الإخفاقات المتنوعة هي في الطبقة السياسية التي قادت السكان عبر تلك الحقب المظلمة ودأبت على بيعها في سوق النخاسة السياسية.
ذلك ما تأكد بجلاء من خلال تقييم السنوات الخمس أو الست الماضية، حيث برزت إلى المشهد السياسي وجوه شابة تمكنت من احتلال مقاعد متقدمة سواء على المستوى الوظيفي الوطني أو فيما يتعلق بقوة الفعل والتأثير داخل المقاطعة ،وهو الأمر الإيجابي الذي قاد الناس رويدا إلى الاصطفاف داخل حزب السلطة الحالي بشكل مختلف عما عهد في الماضي حيث توزعت المجموعات القبلية داخل قطبين في نفس الحزب مما خفف من الصدام الأهلي ومن جبروت النزوات القبلية والعصبوية.
وبدلا من وجود قبائل تتصارع على الكعكة والحضور والامتيازات إذا بنا داخل حساسيتين كبيرتين تمثل فيهما كافة المكونات القبلية.
إنها حسنة تحسب لأولئك الأطر الشباب الذين أدركوا أن الانطواء على "أبناء العمومة" فقط لن يؤدي إلى تحقيق الحد الأدنى من الأهداف وأن عقارب الزمن اجتازت ذلك التقوقع البغيض، لذلك نجحوا في نقل الصراع إلى آفاق أوسع من القبيلة والأسرة وهو ما سمح بعبور جولات سياسية ومناسبات خطيرة بأقل الأثمان كما جرى في انتخابات 2013 وخلال الاستفتاء الدستوري 2017 وكذلك إبان زيارة ولد عبد العزيز لمدينة تامشكط نهاية العام الماضي حيث مرت هذه الأحداث في جو تنافسي مقبول سلم إلى حد كبير من التطاحن القبلي بشكله القديم.
وفي هذا الجو السياسي الاستثنائي استطاع سكان مقاطعة تامشكط أن يتوحدوا محليا وفي العاصمة انواكشوط فانطلق الحراك الشبابي المدعوم بصمت من طرف الأطر الشباب الذي أرغم في النهاية الحكومة على إقرار تعبيد الطريق وهو الإنجاز الأكبر في تاريخ المقاطعة.
إنها إرهاصات ميلاد تاريخ جديد في هذه المقاطعة رغم جسامة تحديات أضعفها وجود نظام حاكم همجي ،فاسد يرغم السكان عبر رسله الطيعين على الدخول في حزب لا توجد له رأى سياسية ولا يملك برنامجا للتغيير وينصب همه فقط إلى سوق الجماهير إلى ما يشير إليه رأس السلطة.
هنا تأتي عمليات الانتساب والتنصيب التي قام بها بها الحزب الحاكم حيث اشتعل إيوار المعركة بين القطبين المتصارعين كما كان يحدث في المرات السابقة غير أنه هذه المرة سلك الطريق القديم بفعل عوامل جديدة.
لقد ظهرت شخصيات من قدماء "المخزن" في المشهد وعملت بقوة على إجهاض مخاض التغيير الذي دشنه أولئك الأطر الشباب ،وهم اليوم يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى العودة بالمقاطعة إلى القهقرى، وإلى عصور الفتن والمواجهة القبلية، بل إنهم طوروا أساليبهم هذه المرة بحيث يعكفون إلى إبرام تحالفات قبلية إقليمية ترعاها رؤوس كبيرة في السلطة تسعى إلى ربط الجسور بروافد اجتماعية بعينها في المقاطعات الأخرى المجاورة.
إن دخول وجوه من مقاطعات لعيون والطينطان وكيفه وحتى من مقاطعات أبعد من ذلك سيجر المقاطعة إلى مرحلة جديدة من الصراع الذي سوف يكون أقوى وأوسع وأشد فتكا؛ ذلك أن كل مجموعة سوف تستنجد بقرابتها في باقي المدن لمواجهة المد الجديد لغريمتها.
إن على سكان مقاطعة تامشكط أن لا يقعوا في الشرك مرة أخرى ،وأن يدركوا حجم المؤامرة التي تحاك الآن ضد ما بنوه خلال السنوات الأخيرة من الثقة والتضامن، وإن عليهم أن يعضوا على ذلك بالنواجذ فلا يقبلون أن يرمى بهم مجددا في مربع الصراع القبلي الآسن.
صحيح أن الغموض الذي يسود نتائج تنصيب وحدات الحزب المهيمن من حيث الولاءات يطلق العنان للشائعات فيدعي كل طرف أنه الأقوى غير أن الأسابيع القادمة سوف تكشف كل شيء وستكون الهزيمة لمن يريدون أن يرتد الناس إلى مهاوي التفرقة و الصدام العقيم وإلى ساحات المواجهات القبلية المدمرة بعدما ذاقوا طعم الاندماج والأخوة وأدركوا قيمة ومزايا قبول الآخر.
بقلم/ عبد الله