في شهر رمضان قبل الماضي كان لي الشرف العظيم ان اتولي خدمة من كان سببا في مجيئي إلي هذه الدنيا، وفي التاسع عشر من ذلك الشهر كنت اجلس بجواره، أتأمله وأنهل من رحيق بركاته، فأحسست برغبة عارمة في الكتابة عنه، تناولت القلم وسطرت الكلمات الواقعة تحت هذه المقدمة وفوق الدعاء. وقبل ان أقوم بتنقيح المقال وإرساله للنشر، راودني احساس غريب! شعرت وكأني أنعيه! فأحجمت عن نشر المقال وحني عن قراءته، اللهم لا تطيرا وإنما هي عادة المحب وولعه بسوء الظن.
وفي يوم الاربعاء السابع عشر من رمضان المنصرم، الموافق للثامن من اغسطس 2012 اختار والدي جوار ربه. وقد حاولت نشر المقال في الثامن من شهر سبتمبر ليكون بمثابة تأبين في ذكري شهره الأول، ولكن الدمع لم يترك لي مجالا! وليس ذلك اعتراضا علي منشئة الله ....وإن العين لتدمع....
في الثامن من اكتوبر عاودت الكرة ثانية في ذكري الشهر الثاني لرحيله، فلم أفلح، فقد كان المصاب جلل، وإن الجرح في القلب لعميق. اللهم لااعتراض.
وفي هذه الذكري شمرت، وتجلدت، فكتبت، ليس لتراجع في اشتعال العاطفة، وإنما لشدة الاصرار هذه المرة علي ان أشهد شهادة حق أرجو الله ان ينفعه بها.
واني لأرجو ممن قرأ هذا المقال أن يترحم علي روحه الطاهرة، وأن يدعو له بالخير وجزي الله المؤمنين خير الجزاء, ولا أراكم الله مكروها.
بني أريد أن أجلس علي الكرسي! قالها وهو يحاول النهوض من متكأه فلم يستطع... اسرعت إليه أجلسته علي فراشه، احطته بذراعي وهممت بحمله لا! لا! اسندني فقط! قالها وقد بدا جادا فيما يقول رضخت لرغبته وأسندته، نهض متثاقلا وضع يده اليسري حول عنقي واستند باليمني علي الحائط، سحب جسمه النحيل الي الأعلى ببطء شديد كأنما يسحب حملا من بئر سحيق! اتكأ الي الخلف قليلا ثم سحب رجله اليمني ثم رجله اليسري ثم أومأ الي الامام قليلا واستوي علي قدميه! شعرت به وقد بلغ من الجهد عتيا. كانت نبضات قلبه تتسارع وتزداد سرعة تنفسه، خطي الي الخلف مرتين وقال بصوت دهش أأجلس؟! تناولت الكرسي بسرعة، قربته منه وقلت: نعم يمكنك الجلوس.
سحب يده ببطء من علي الجدار وتلمس بها وهي ترتجف مسند الكرسي ثم أومأ قليلا الي الخلف، ثم جلس علي كرسيه وانتصب شامخا كالطود الأشم. وكأنه أراد أن يقول: وتجلدي للشامتين اريهم اني لريب الدهر لا اتضعضع خيل الي وكأني انصب ملكا علي عرشه، تملكني الفخر ووددت لو أني اصرخ وأقول: هذا أبي فليرني امرئ منكم أباه! قبلت رأسه وجلست أتأمله: الراس ككف وليد يحيط به هلال ناصع البياض، عينان نصف مفتوحتان كأنما هما أكثر انشغالا بالماضي من الحاضر والمستقبل، وجه ابيض تعلوه جبهة واسعة ذات خطوط تنبؤك عن أثر السنين، تتوسطها وحمة بنية اللون تشكلت بفعل السجود. الانف مازال واقفا بشموخ حير سنينه التسعين. وتحت الانف شفتان لا تفتئان عن ذكر الله. وتحتضن الوجه المتلألأ لحية بيضاء تنير ه وتكسبه تألقا ووقارا. ولطالما أعزها وأكرم مثواها.
نظرت الي باقي الجسم النحيل فإذا هو علي هيئته، لا تجد فيه ما يثير فضولك إلا احساسك انه لم يعد منسجما مع همة ذاك الشيخ العالية، وروحه المحلقة في الافاق. افسدت علي ذاكرتي متعة تصفح ذلك الوجه الممعن في الإمتاع، حينما عادت بي ثلاث عقود ونيف الي الوراء. يوم كنت طفلا في عقدي الاول وقد بلغ هذا الشيخ اذ ذاك رشده وزاد! تذكرت كيف كان هذا الجسم الراكن الي الراحة الان يسابق همة الشيخ في فعل المستحيل بحسابات الزمن المتاحة يومها، حني ليخيل اليك ان الاثنان -الهمة والجسم- خيل بوزنوبه: (البيظة تغلب الحمره والحمره غالب ما تلتز!) كانت همة الشيخ مثلا تهمس في أذنه أن حيه - والقرى المجاوره له - اصابها الجفاف، فمات الضرع، وشح الزرع، وبلغ الجوع من الناس مبلغا، وأن هناك بعيدا علي ضفة النهر يوجد من الحبوب ما يمكن ان ينقذ ارواح قومه حني وان كان علي بعد مئات الكيلومترات، وان ساعة الرحيل أزفت، فإذا بهذا الجسم المعد لارتقاء المجد يسابق الهمة، غير آبه بلفح شمس الصيف الحارقة، ولا بشح الزاد، ولا بمخاطر الرحلة.
وتمضي الأيام، وتعود القافلة محملة بأنواع الطعام، وينيخ الشيخ الشاب رواحله في منتصف الحي، وتتحدث الناس أن يحي قد جاء، فيبلغ الحاضر الغائب، وتتحلق الافواه الجائعة حول الرجل المتعب وهو لما يدخل بعد الي خيمته.
تأخذه شفقة الرحماء، وهزة الاسخياء، وعظمة النبلاء، فيعطي هذا ويعطي ذاك، وينسي أن في الخيمة أسرة هناك! وتقف الزوجة الصالحة وقد حركتها عاطفة الام وقد علمت ان الغذاء سينفد لا محالة وان يحي لن يتذكرها وأطفالها ما دام هناك جائع.
تتقدم نحوه، تنحني علي سرة فيها من الطعام مالا يغني من جوع كثيرا، هي اخر ما تبقي من القافلة! تتناولها وهي تقول: يا رجل اتق الله في نفسك فان لك صبية!! يبتسم الرجل وقد فطن للتو أن الغذاء قد نفد! وقبل أن يفكر في عواقب فعلته، اذا بصوت رجل قادم من بعيد يصرخ وقد اعياه الجوع: يا يحي اين نصيبي؟! فوالله لم اشعل نارا ولم اذق طعاما منذ أيام! يلتفت الشيخ الي زوجته الصالحة، ويرمقها باستعطاف! لم تشأ أن تحرمه متعة العطاء ولذة السخاء وهي التي خبرته عن قرب، وعلمت أن حب المساكين جزء من تكوينه الفايسيولوجي والعاطفي!! ناولته السرة وهي تهمس لنفسها: ولوأن مافي كفه غير نفسه لجاد بها فاليتق الله سائله يأخذ بقية الطعام، يعطيها الرجل وهو يبتسم.! ينفض الجمع وقد عاد كل الي اهله بطعام إلا اسرة يحي! لم يفكر كثيرا، التفت الي زوجته وقال اليست عندكم شياه من الغنم ؟! بلي!! ترد زوجته القانعة بالقليل، والمؤمنة بالتنزيل، والراضية بفعل الجليل.
اذا اذبحوا احداهن! سأعود اليوم الي الضفة. يضيف الشيخ وهو ينظر في أعين أطفاله الذين لم يبلغو الحلم بعد. سأرجع من هناك قريبا ومعي الخير الكثير!!! هكذا ببساطة؟ نعم ذاك هو أبي! وفي يوم اخر في زمن اخر،تهمس الهمته في اذن الشيخ الشاب وهو في رحلة استجمام شبابيه ان شابا من بني حيه تقطعت به السبل في أرض تيرس علي الحدود مع الجزائر منذ سنوات وأن لهذا الشاب أما لا تنام وأسرة لا تهنأ منذ فقدانه، وأن خبرا غير مؤكد يفيد بأنه في مضارب تيندوف، وان لا سبيل الي الراحة دون العودة به، وزرع البسمة علي شفاه أمه وأسرته. ويتكبد الجسم عناء الرحلة، فلا يعبا بزمهرير تيرس، ولا مشقة المشي، ولا امتطاء ظهور الجمال، ولا وحشة الصحراء، وبعد شهر ونيف يعود الشيخ الشاب ومعه المفقود ليرميه في حضن امه وكنف أسرته.
يشحذ الشيخ همته كل يوم، أن الجنة حفت بالمكاره، وأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، وأن افضل عبادة هي الصلاة في جوف الليل، حيث لا يراه إلا من أمره بعبادته، فيتجافي الجنب عن المضاجع، وتتحمل أعضاء الجسم لسعات ماء الطهارة في قر الشتاء، وترضي القدمان عناء طول القيام، ويعفر الوجه جبهته في التراب، وتتلذذ العينان بلهيب عبرات الخشية من رب السماء.
كان ديدن الشيخ الشاب أن يأمر العينين فتدمعان من خشية الرحمان، ويأمر الشفتين فتبتسمان في وجه الضيف، ويأمر اليدين فتعطيان السائل والمحروم بسخاء، وتلطف وحياء، حني لتجهل اليسري ما جادت به اليمني، ويأمر القدمين فتسعيان الي المساجد في الرمضاء وفي الظلماء, وإنه لغيض من فيض! مالذي حدث اذا ايها الجسم المدرب علي المكارم؟ ألم تعد قادرا علي مواكبة تلك الروح الطاهرة الجامحة الي مثواها في السماء؟ أهو الطلاق الحتمي بينك والروح الواقع مهما طال الانسجام؟ أم هو حنينك الازلي للعودة الي ألجذور منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخري نعم هي اذا ثنائية الحياة والموت، الايجاد والنفي، القوة والضعف ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ثم لتكونوا شيوخا صدق الله العظيم ألم يقلها صراحة قطري ابن الفجاءة
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم وتسلمه المنون الي انقطاع
وما للمرء خير في حياة اذا ما عد من سقط المتاع
لكن أبي رغم الدهر، ورغم السنين، ورغم تمرد الجسم المسكين، لن يصير سقط متاع. سيظل في نظري وفي نظر الذين عرفوه وعاصروه وأحبوه، الشيخ الشاب، الجليل، الكبير، التقي، النقي، الطاهر، السخي، العالم، العامل، الحامد علي السراء، والصابر علي الضراء، المنفق في سبيل الله، والباكي من خشية ربه، أبو الفقراء، واخو الضعفاء، ومأوي المساكين: محمد يحي بن عبد الباقي اللهم إنك تعلم أني ما كتبت هذا رياء ولا بطرا، ولا تكلفا ولا تزلفا ولا أشرا، ولا أزكي أحدا من خلقك عليك، وإنما هي شهادة حق علمتها فأدليت بها، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين.
رب إن لي أبا شيخا كبيرا، رب ارحمه كما رباني صغيرا وقد كان أبا رحيما، عطوفا كريما، أبلي في طاعتك وفي تربيتنا شبابه، اطعمنا صغارا، وأحبنا كبارا ،علمنا القرءان، وهذبنا ونحن فتيان، ونصحنا ونحن شبان، اعاننا علي بره، بأن كان أبر بنا من برنا به، ولم يرد منا جزاء ولا شكورا.
وقد كان يتصل بي وإخوتي ونحن منه علي بعد المسافات، فلا يرفث ولا يفسق، ولا يسأل مالا، ولا يثقل كاهلا، وإنما كان يقول: يا بنيِِِِ اتقوا الله حق تقاته، وإذا سمعتم عني أمرا فلا تنسوني في الدعاء. رب إني واخوتي نتذكر وننسي، نصحوا وننام، نحي ونموت، وانت حي قيوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، فإليك نكل أمره، وحسبه وحسبنا الله ونعم الوكيل.
رب إن لي أبا شيخا كبيرا، وقد اتقاك صغيرا، وأطاعك كبيرا، وبكي من خشيتك كثيرا، فاجزه بما فعل جنة وسرورا، واجعل مقامه فيها كبيرا، لا يري فيها شمسا ولا زمهريرا.
رب إن لي أبا شيخا كبيرا، وقد أحب محمدا صلي الله عليه وسلم كما لم يحبنا، واستأنس بسيرته كما لم يستأنس بنا، وعض علي سنته بالنواجذ ولم يحدث فيها أمرا، فشفعه فيه يوم القيامة، واسقه من حوضه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، واحشره معه في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا.
رب إنه يحي وقد علمته القرءان صبيا، ووهبته حنانا من لدنك وزكاة وجعلته تقيا، وبرا بوالديه ولم يكن جبارا شقيا، فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.
احمد ولد عبد الباقي