لم يكن مساء السبت الموافق 13 أكتوبر 2012 مساءً عاديا في حياة الموريتانيين، ولم يكن كذلك مساء السبت الموافق 27 أكتوبر 2012 مساءً عاديا، وبين المساءين عاش الشعب الموريتاني نصف شهر عصيب، كثرت فيه الأسئلة وغابت فيه الأجوبة، طغت فيه الشائعات والإشاعات واختفت فيه الحقيقة، كبرت فيه الحيرة واتسعت حتى غطت على ما سواها. بعد رصاصات السبت، صمت البعض، وثرثر البعض الآخر، وكان لابد لصمت البعض، ولثرثرة البعض الآخر، أن يوصلنا إلى إشاعات أو إلى شائعات السبت، وكلا المصطلحين يمكن استخدامه هنا، فدرجة الصدق لا يمكن تحديدها في كل ما قيل مساء السبت الموافق 27 أكتوبر. إن شائعات السبت 27 أكتوبر، لم تكن إلا نتيجة حتمية لطبيعة ردود الفعل الرسمية على رصاصات السبت 13 أكتوبر، خاصة منها ردود الفعل التي جاءت من طرف الحكومة، والحزب الحاكم، والإعلام الرسمي. والحقيقة أنه لا عاقل في هذا البلد كان يتوقع من هذه الأطراف الثلاثة أن تكون ردود أفعالها على مستوى الحدث، وذلك لأنها ـ وببساطة شديدة ـ لم تتعود إلا على التصفيق بالأيادي والأرجل في أوقات اليسر، أو الزغاريد عند توزيع الغنائم. أما في أوقات العسر، وفي أوقات الشدة، فإن تلك الأطراف لا تعرف إطلاقا كيف تتصرف. لا أحد كان يتوقع من تلك الأطراف الثلاثة ردود فعل ذكية ومناسبة على رصاصات السبت، لأنها ليست مؤهلة أصلا لاتخاذ مثل تلك الردود، ولكن في المقابل لا أحد كان يتوقع من تلك الأطراف أن تتخذ مواقف سلبية جدا، وأكثر خطورة على الرئيس الذي تزعم أنها تسانده، من مواقف المعارضة التي كانت تطالب برحيله. دعونا نعود قليلا إلى ردود أفعال هذه الأطراف الثلاثة بعد رصاصات السبت 13 أكتوبر، لأن ذلك وحده هو الذي سيساعدنا في فهم ظهور هذا الكم الهائل من الشائعات مساء السبت 27 أكتوبر. ففي مساء السبت 13 أكتوبر، تأخرت وسائل الإعلام الرسمية عن الحديث عن إطلاق النار على الرئيس، ولم تتحدث عن تلك الحادثة إلا بعد أن تم تداولها كثيرا في المواقع المحلية. ففي التلفزة مثلا تم تقديم الحادثة من خلال فاصل تم اقتطاعه بين سهرة شعرية على أنغام العود، وسهرة غنائية، فتم تقديم الحادثة من طرف وزير الاتصال بطريقة مربكة، في ليلة سمر وطرب تلفزيوني، وتم الحديث عن "النيران الصديقة" بطريقة أكثر إرباكا. وفي اليوم الأول بعد الحادثة أطل علينا مسؤول الشؤون السياسية للحزب الحاكم ليتحدث عن الانتخابات، وكأن شيئا لم يكن، أو كأنه أراد أن يقول للمعارضة: لماذا تتخذون موقفا أخلاقيا من هذه الحادثة ما دمنا نحن الذين نمثل أغلبية الرئيس المصاب لم نتذكر الأخلاق في مثل هذا الوقت؟ أطلق الحزب الحاكم بعد ذلك إشاعات كثيرة عن عودة الرئيس القريبة، وعن الاستعدادات التي يقوم بها لاستقبال الرئيس، وكأنه أراد بذلك أن يُعَظِّم الصدمة لدى الموريتانيين لما يكتشفوا بأن الرئيس لا يستطيع العودة في مثل ذلك الظرف الذي تم تحديده. أطلق أيضا الحزب الحاكم "إشاعة خطاب الأضحى"، وأكد الحزب بأن الرئيس سيتحدث في هذه المناسبة التي لم يتحدث فيها أي رئيس موريتاني من قبله، وهو ما تسبب في النهاية في ظهور الخطاب المكتوب، والذي زاد من قلق الموريتانيين على الرئيس، خصوصا أن الخطاب المكتوب لم يقرأه وزير الإعلام، أو أي مسؤول حكومي رفيع، وإنما تم تقديمه من طرف مقدم نشرة الأخبار، كخبر ثالث في نشرة الثامنة التي تأخرت ليلتها بربع ساعة تقريبا. ويذكر أيضا للتلفزة من باب جهودها الجبارة في تشجيع الشائعات، بأنها قدمت لقاءً حصريا في وقت أوشك فيه الجميع أن ينسى الرواية الرسمية لحادثة إطلاق النار على الرئيس، وفي وقت حاول البعض فيه أن يتغافل عمدا عن نقاط الضعف في تلك الرواية. في مثل ذلك الوقت استضافت التلفزة العقيد والملازم، وقدمت لقاءها الحصري، وكأنها أرادت بذلك ـ من خلال التنسيق طبعا مع جهات عسكرية ـ أن تشكك من جديد في الرواية الرسمية، وأن تجعلها تشكل موضوعا قديما جديدا لتندر الموريتانيين. وظهر أيضا تناقض واضح بين المصادر الرسمية، فتحدث المستشار الإعلامي للرئيس عن خروج الرئيس من مستشفى بيرسي، بينما ظلت وسائل الإعلام الرسمية ( الوكالة، التلفزة، الإذاعة) تتحدث عن اتصالات ورسائل تصل إلى الرئيس في مقر إقامته بمستشفى بيرسي. ومن بعد ذلك كله، جاءت موبقة العطلة المعوضة، والبيان الرئاسي، والذي لم يكن معهودا لدى الموريتانيين خصوصا أن يوم الأحد لم يكن هو اليوم الموالي لعيد الأضحى المبارك. غابت الحكومة بشكل كامل، وغاب أي ناطق رسمي، وغابت أي متابعة لصحة الرئيس، وغابت التقارير أو اللقاءات الصحفية التي تتحدث عن الوضعية الصحية للرئيس، وعن تطورها. ولم يكن بإمكان الرئيس أن يقوم بتلك الأدوار بنفسه، ولم يكن بإمكانه أن يخاطب الموريتانيين كما خاطبهم في اليوم الموالي لإصابته، وبعد خمس ساعات فقط من العملية التي أجريت له في المستشفى العسكري. وبالتأكيد غابت أيضا المقالات في الصحف والمواقع المحلية، وغابت التصريحات الفردية لأنصار الرئيس، ولم يظهر من الثمانمائة ألف مناضل المنخرط في الاتحاد من أجل الجمهورية، أي مناضل واحد. اختفوا فجأة، وكأنما قد ابتلعتهم الأرض بعد دقائق معدودة من إطلاق النار على الرئيس. بالمختصر المفيد غابت الحكومة، وغابت الأغلبية، وغاب الإعلام الرسمي، لذلك فلم يكن أمام الشعب الموريتاني إلا أن يبحث عن مصادر أخرى للأخبار مما جعله يقع ضحية لإشاعات مواقع التواصل الاجتماعي، ولبعض المواقع التي تفتقد للمهنية، والتي لا تتحرى الصدق فيما تنشر. شفى الله الرئيس، وحفظ الله موريتانيا من كل سوء، ومن كل انقلاب عسكري جديد، وأرشد نخبها السياسية إلى حلول دستورية وتوافقية تؤسس لديمقراطية حقيقية. تصبحون على حقيقة مؤكدة..