ذات ليلة من ليالي الخريف الماضي كنت أتبادل الرسائل على الواتساب مع الصديق محمد الناجي لأتفق وإياه على أن يكون موعد سفرنا بالغد إن شاء الله. لم أكن للأسف أُبكِّر مثل امرئ القيس الذي يقول:
وقد أغْتدي والطيرُ في وُكُناتِها @ بمُنجرِدٍ قيْدِ الأوابدِ هيْكَلِ
فبعد صلاة الفجر رجعت للنوم مرة أخرى وفاءً لعادة كسل قديمة، استيقظت من رقْدة الصبيحة الساعة التاسعة وبدأتُ في تناول الفطور مع الشاي، وبعد أخْذِ حمام ذهبتُ للوالدة لتوديعها..
فقالتْ: إلهي كنْ لي عليه خليفةً @ فيا ربِّ ما خابتْ لديك الودائعُ
خرجت من المنزل الساعة الحادية عشر ومررْتُ على منزل “محمد” ثم توجهنا للسوق لقضاء بعض الحوائج.
انطلقنا منتصف اليوم وكان تظليل زجاج السيارة مع تشغيل المكيف يُبْقينا في جو بارد بعيدا عن الجو الحار جدا في الخارج. من الجيد أنّ قانون تحريم تظليل النوافذ “أفِّيمى” مُطبَّق فقط في انواكشوط أما في الداخل فلا تتعامل معه السلطات هناك كمخالفة، فرغم سلبياته التي قد ينتهزها اللصوص والمنحرفون إلا أننا كنا نرى فيه إيجابيتيْ الحماية من أشعة الشمس الحارقة والسلامة من نظرات الفُضوليين.
أدركتُ أننا تأخرنا كثيرا في الإنطلاق من مدينة #كرو وعلينا أن نُسرع السير لعلنا نصل وجْهتنا ليلا لذا كنت أتجاوز أحيانا سرعة 120 كيلو متر في الساعة مُتعرِّضا بذلك للأخطار…
خلـيـلـيَّ سِيرا بالغداة لعلنا @ نفوز عشِيًّا من “بثينةَ” باللُّـقْـيـا
فإنَّا إذا لنا من “بثينةَ” نظرةٌ @ سواءٌ علينا مَن يموت ومَن يحـْيا
لم تكن “بثينة” هنا التي نرومُ الوصول لها بالعشي سوى صديقنا مصطفى الحاج الذي كان قد قد قال لنا ذات ليلة من ليالي انواكشوط الباردة في المقهى التونسي أنه سيدعونا في الخريف لزيارة بلدته “لبحير”، لم نتعامل حينها مع مُزحته بكثير من الجدية فأعرضنا عنها صفحا وطويْنا كشْحا ثم تناسيناها لنكون على موعد مع رسالة نصية منه ذات يوم من أيام الخريف تخبرنا بضرورة شدِّ الرحال إليه في أقرب وقت -أنجز حرٌّ ما وعد- وطبعا ما كان لنا إلا أن نُلبِّي النداء لأن الكريم إذا دُعي لطعنة في آخر الليل أجاب، فكيف بدعوةِ زيارةِ إمتاع ومؤانسة !
تخطَّيْنا قرية “گيْفة” بكثبانها الرملية التي تُغْريك بإعداد شاي فوقها على ضوء القمر مع رفيقةٍ ضرَّةٍ للقمر فليس ثمَّةَ فرقٌ بينهما غير أنه بعيد في السماء وهي بجانبك في الأرض..
فإنْ أنسَ لا أنسَ “العذيب” وأهله @ وطيبَ ليالٍ في رُباهُ الغوابرِ
وظبْيًا به بعد التفرُّق والنوى @ لدى سمرات الجذع بات مُسامِري
ينوءُ بدعْصٍ فوقه غصنُ بانةٍ @ ويرْنو بطرفٍ فاتنِ اللحظِ فاتِرِو
إن شئتَ فكن كالمتنبي فاقطفْ من الليالي ما شئتَ، وانظرْ للقمرين معا متى ما أحببتَ، وإن ركَّزتَ على قمر الأرض أفلحتَ ونِلتَ ما أردتَ…
نشرتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شعرها @ في ليلةٍ فأرتْ لياليَ أرْبعا
واستقبلتْ قمرَ السماء بوجهها @ فأرَتْـنِـي القمريْن معَا
من بعيد تراءى لنا “أگْليب كامور” فكنتُ أتطاول من على مقعد السيارة لأراه ..
أقولُ لأصحابي ارفعوني فإنهُ @ يقرُّ لعيْنِي أن “سُهيْل”ٌ بدا ليَّا
وهو معْلم طالما تغنَّى به أهل “كامور” وافتخروا كما يفتخر ويتغنَّى أهل دمشق بجبل “قاسيون”
قادِمٌ من مدائن الريح وحدي @ فاحْتضِنِّي كالطفل يا “قاسَيُونُ”
احتضِنِّي ولا تُناقِشْ جنوني @ ذرْوَةُ العقْلِ يا حبـيـبـي الجنونُ
وبما أننا لسنا من أهل “كامور” لم نبحث عن حضنٍ دافئ عند ”أگْلـيْـبِـه” فاكتفينا بتسجيل الجماليات والتلويح لها بالإعجاب وذلك كجزء من عهد قديم قطعناهُ على أنفسنا بإبداء الإعجاب بالجمال في أيِّ مكان صادفناه. عند مخرج كامور كانت السيارة في موقع مرتفع مُشرف على المدينة وكان يمكن بوضوح رؤية البطحاء التي تشقُّها واحات النخيل، وزادَ المنظرَ جمالا فصلُ الخريف الذي تأخذُ الأرضُ فيه زُخْرُفَها وتتزيَّن..
كـامـورْ ألا مـكـان أفْطورْ @ عندي أُنختيرْ ألاَّ بُعْدو
واليوم أسكي مزْين كامور @ الارضُ تَشْقى وتسْعدُ
في الطريق كان المصطفى يحاول عبثا عبر هاتفه المُعلَّق في “لَنبارْ” والذي لا يلتقط سوى إشارة شبكة “موريتل” إلا إذا تمَّ وضعه في مكان مرتفع، كان يحاول الإتصال بنا ليعرف أين وصلنا وذلك بعد أن اتصل عليه الأخ سعد بوه من دولة الإمارات يخبره بانطلاقنا من گرو بعدما رأى منشورا كنت أنا قد نشرته على الفيس لحظة خروجنا. من الطريف أن مصطفى كان بعد ذلك يمزح معنا بأن سعد بوه يعطي لزيارتنا أهمية كبيرة وكأننا وفدٌ وزاري رفيع المستوى حتى خـُيـِّلَ إليه أننا لسنا أصحابه الذين يعرف !