بعد مرحلة ترقب مشحونة بالقلق يبدو أن ملامح المشهد الوطني بدأت تتضح شيئا فشيئا: رحل الرئيس بمستشار ومدير ديوان ومدير تشريفات ليعطي الانطباع بأنه في زيارة رسمية وأنه مستمر في إدارة شؤون البلاد من هناك، بلغ الحماس بالحزب الحاكم حد المطالبة بالإسراع في تنظيم الانتخابات، أعلنت المعاهدة تجميد أي حديث عن أية مبادرة لغاية عودة الرئيس من رحلته العلاجية وأعلنت المنسقية تعليق "نشاطاتها الاحتجاجية الجماهيرية" حتى إشعار آخر!
بدورهم يستمر أعضاء الحكومة في مزاولة نشاطاتهم الاعتيادية بل إن بعضهم ليبدي حيوية أكبر ويطل من على وسائل الاعلام الرسمية وهو مستغرق في تفقد "المصالح التابعة له" وفي توزيع الابتسامات والتوجيهات السامية والنيرة!
هي المعجزة الموريتانية إذا: في بلد يرزح تحت أحد أعتى الأنظمة الرئاسية يختفي الرئيس من المشهد وتبقى الأمور تسير على ما يرام وكأن الأمر يتعلق بشعرة استلت من عجين! أو كأنه في أسوأ الأحوال يتعلق بجمهورية من ورق تتراقص فوقها عرائس روسية مدللة!
من منظور هذه الرؤية يتم اختصار الفاعلين في المشهد الوطني في مساندة النظام (الحكومة والأغلبية) ومعارضته (المعاهدة والمنسقية)، وهي أكثر من ذلك رؤية تريد أن تتجاهل السياق الاقليمي وإكراهات اللحظة التي لا تتحمل شلل دولة مثل موريتانيا يعول عليها كثيرا في معركة فاصلة باتت على الأبواب!
والواقع أن المشهد أكثر تعقيدا من أن يسمح باختصاره في مواقف ومطامح طبقة سياسية ما يزال أغلبها يؤمن بقدسية العسكر وأحقيتهم في السلطة، كما أن حجم المصالح المتصارع حولها أضخم من أن تترك في مهب ريح العواطف الجياشة! فبأي منطق نريد أن نستسلم لإغراء تجاهل دور لاعب بحجم المؤسسة العسكرية ممثلة في "طغمة" جنرالاتها؟ وكيف نتغاضى عن دور محتمل لقوى المال الجريحة والمتحفزة للانتقام؟ ثم لماذا ننسى أن ممارسة السلطة في بلادنا لم تكن في أي يوم من الأيام شأنا داخليا محضا؟
صحيح أن العواطف يمكن أن تلعب دورا مؤثرا في مرحلة أولى حين يكون "الجميع" ما يزال تحت هول الصدمة، لكن صحيح أيضا أنها في عرف "رجال الدولة" مجرد "لحظات نفاق عابرة" أهون شأنا من أن تعرقل مسيرة التاريخ، والأصح من كل ذلك أن السياسة –مثل الطبيعة- لا تتحمل الفراغ وأن كرسي الرئاسة أكثر أهمية من أن يحال لقاعة الانتظار! وكل عجز –ولو مؤقت- عن شغله قد لا يعني أقل من إعطاء الاشارة بأن أبواب السباق نحوه باتت مشرعة وأن ميزان القوة وحده هو الذي سيحدد من سيصل أولا!
ثم إن تاريخ بلادنا هو تاريخ الصراع على السلطة: أحيانا يأخذ هذا الصراع طابعا عنيفا وأحيانا يكون استعراضيا، لكنه في أحيان أخرى يطبخ على نار هادئة ليأتي الانتقال سلسا، مؤذنا –بالنسبة لأبطاله- بفجر جديد فيه يغاث الناس وفيه يعصرون!
يقولون بأن التاريخ لا يعيد نفسه، لكننا أمام تشابه مصير مثير للاهتمام من حيث التواريخ والحوادث والفترة الزمنية: ففي يوم 4 أغشت 1983 استولى الثائر الافريقي توماس سانكارا على السلطة في بلاده، قبل أن يبعد منها في حادث مأساوي يوم 15 اكتوبر 1987! وفي يوم 6 أغشت وصل الجنرال عزيز إلى السلطة ثم تعرض لحادث مأساوي يوم 13 أكتوبر 2012! فهل نحن أمام تاريخ يعيد نفسه؟
اقلام