استقر اسم محمد ولد بوعماتو في دائرة الضوء منذ حوالي ثلاثين سنة، مثلت أبرز محطات مساره الاقتصادي والسياسي أخيرا، غير أن دائرة الضوء ازدادت سخونة حول اسم الرجل في السنوات الأخيرة الماضية، عندما أصبح أبرز معارض لصديقه السابق الرئيس محمد ولد عبد العزيز،
وبين العقود الثلاثة جرت مياه كثيرة وأحوال ومحطات حولت الرجل من معلم فرنسية إلى أكبر رجل أعمال في موريتانيا أبصر ولد بوعماتو أنوار الحياة الأولى في السنغال في العام 1953، لأبوين مهاجرين إلى السنغال هما حمين ولد بوعماتو واغلانه بنت عبد الوهاب فقد كان أحد أفراد المجموعة المهمة التي ولدت هنالك رغم أن جذورها تعود إلى مدينة أكجوجت، بعد الإعدادية التحق ولد بوعماتو بقطاع التعليم الأساسي ولعدة سنوات، كان الرجل "معلم فرنسية" متمكنا يتابع أيام التعليم القاسية بصعوبة وتململ، في تلك الفترة أخذ ولد بوعماتو كثيرا من مبادئه السياسية والفكرية، وخصوصا اعتناق ليبرالية سياسية واقتصادية.
آمن ولد بوعماتو أنه خلق لمهمة أخرى غير التدريس والطباشير، حيث اكتشف بسرعة أن "الخبز" قد يكون وسيلة سريعة للثراء.
واصل ولد بوعماتو رحلة الصعود المثيرة، حيث حصل على وظيفة اسمية في شركة خاصة يملكها ابن عمه اعبيد ولد الغرابي، غير أن القدر ابتسم من جديد، للرجل عبر "التوابل" التي أضافها للمشهد المالي والتجاري في البلد، وذلك عبر تمثيله الحصري لشركة (جمبو) للتوابل. توزع أكشاش جمبو، وحوانيتها ومسابقاتها، المشهد حينئذ، مع منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات، وبالتالي استطاع التغلب على المكانة المهمة لشركة ماجي في عالم التوابل، وهكذا استفاد بوعماتو من كل مكعب "حموضة" يدخل إلى المطابخ الموريتانية.
بداية التسعينيات ربط ولد بوعماتو علاقات قوية مع رجل الأعمال أحمد ولد الطايع شقيق الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، ومن خلال البوابة "الطائعية" استطاع ولد بوعماتو إدارة صراع قوي مع منافسيه الماليين "أهل عبد الله" و"أهل انويكظ". وبتفان كبير في المنافسة، استطاع ولد بوعماتو الحصول على التمثيل الحصري أيضا لمنتجات شركة مالبورو، قاضيا بذلك على التمثيل الذي كان بحوزة شركة MAOA الخاصة بالسجائر والمملوكة لأهل عبد الله.
وبسياسة ترويجية مميزة، تزايد حجم المدخنين لسجاير مالبورو، وتزايد الطلب عليها، قبل أن تقوم الشركة الأم ببناء عيادة طبية لأمراض العيون في نوكشوط ضمن التزامها القانوني بإقامة منشآت طبية في مقابل السموم والأمراض التي تنتشر عبر أعواد السجائر، حملت الشركة اسم "مستشفى بوعماتو لأمراض العيون" ولسنوات طويلة ظلت المؤسسة قبلة لمئات الموريتانيين للحصول على العلاج المجاني أو شبه المجاني.
كما استطاع ولد بوعماتو خلال العقود الثلاث الماضية ربط صلات قوية مع "لوبيات" وقوى نفوذ دولية ورؤساء متعددين، وكانت صداقته الخاصة مع الأخوين نيكولا وأوليفييه ساركوزي معولا أساسيا في تحطيم جدار الرفض الدولي الذي قوبل به انقلاب الرئيس عزيز في 6/8/2008 مع نهاية التسعينيات أسس ولد بوعماتو بالشراكة مع مؤسسات أوربية، وبشراكة مماثلة مع صديقه أحمد ولد الطايع البنك العام لموريتانيا (GBM)، برأس مال يقارب 7 مليارات و200 مليون أوقية.
وبدأ البنك يتمدد بسرعة داخل شرايين المؤسسات الاقتصادية في البلد، وفي مقابل ذلك بدأت شجرة مؤسسات بوعماتو تمد أغصانها داخل البلد، ليستحوذ على جانب مهم من شركة "ماتال"، وليكون أحد كبار ملاك الحصص المالية في الشركة الموريتانية التونسية للاتصال، كل ذلك كان دائما برفقة صديقه أحمد ولد الطايع.
حافظ ولد بوعماتو على شراكته وعلاقته مع أحمد ولد الطايع، رغم أن هذا الأخير قرر اعتزال السياسة والمحافل، وآوى إلى بيته ومسجده في أطار.
يعرف عن ولد بوعماتو عمق علاقاته بأصدقائه، وتأثيره على أغلب الوزراء، حيث كان أغلبهم على موعد – عند الإقالة – مع هدية من بوعماتو.. منزلا مرة أو سيارة فارهة، أو قضاء ديون، وتتحدث المصادر المتعددة أن تلك الإكراميات وصلت الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وبشكل خاص خلال حملته الانتخابية 2009 التي تكلف فيها ولد بوعماتو أكثر من مليار ونصف، كما وضع فندق آتلانتيك تحت خدمة الحملة الرئاسية.
سنوات العسل
ارتفع اسم ولد بوعماتو إلى مرحلة جديدة من الحضور القوي في دائرة المال والأعمال، وهكذا خلال الأشهر الأولى من حكم ولد عبد العزيز، سددت الدولة الموريتانية حوالي 13 مليار أوقية دفعة واحدة من الديون المترتبة لولد بوعماتو على شركة الغاز، وتوجهت مؤسسات عمومية كبيرة وبتوصيات رسمية – وفق ما أِشيع حينئذ - إلى تحويل حسابها وودائعها المالية إلى بنك ولد بوعماتو، وذلك وفق ما تداولته مصادر الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية المناوئة للرئيس عزيز يومها.
وفي المقابل بدأ الرجل تأسيس شركة موازية للغاز، ظلت لسنوات طويلة تستولي على المخازن التابعة لشركة سو ما غاز، كان ولد بوعماتو شريكا أساسيا في سونمكس، ولذلك اصطدم باكرا بمديرها مولاي العربي، وراسل السلطات الرسمية متهما مولاي العربي بالفساد وإساءة الإدارة. وصادفت تلك الرسائل هوى في نفس ولد عبد العزيز الذي سبق أن واجهه مولاي العربي برفض قاطع لتعيين مقرب منه مديرا مساعدا لسونلك ودخل مولاي العربي السجن ولبث فيه سنة أو تزيد قبل أن يخرج ببراءة، فيما تفرق شمل المحمدين الذين اجتمعا على سجنه وبدت العداوة والبغضاء بينهما تتجسد على أرض الواقع متابعات قضائية وحربا مفتوحة.
ثم اصطدم ولد بوعماتو سريعا بالوزير السابق لمرابط ولد بناهي مدير الشركة الوطنية لصيانة الطرق "آنير" لأنه رفض شراء سيارات شركة نيسان المملوكة لولد بوعماتو وفق ما تداولته وسائل الإعلام حينها. كانت نيسان قد أسقطت شركة ممثلية توتويا المملوكة لأهل عبد الله، واستطاع ولد بوعماتو في عهد ولد الطايع النفوذ إلى شركة نيسان التي امتلكت سوق السيارات الحكومية، قبل أن تنصرف عنها وجهة الرئيس الحالي إلى سيارات (V8) التي تحتل اليوم جزء مهما من اهتمامات السلطة.
كما أن حضور الرجل في ميدان الإسمنت والغاز، والطيران الذي قضى على أحلام "الخطوط الجوية الموريتانية" لم يكن له مثيل في تاريخ الحضور الاقتصادي في البلد. ولـ"عيون" ولد بوعماتو صادق البرلمان على تخفيض الضرائب على السجائر، قبل أن تعود السلطة من جديد إلى تحريم بيع السجائر بعد أن اشتدت الفجوة بين الرئيس وصديقه.
أزمة متسلسلة
يؤكد متابعون للعلاقة بين المحمدين أن تدهورها بدأ تدريجيا بعد انتهاء الحملة الانتخابية في 2009 واستتباب الحكم للرئيس محمد ولد عبد العزيز، حيث بدأت جدران العلاقة بين الرجلين تتصدع بشكل تدريجي، وخصوصا بعد ما يعرف بأزمة "تمويلات القذافي للحملة" وبعد ذلك اتضح لولد بوعماتو أن ولد عبد العزيز لن يستشيره في كل الأمور وزاد طين العلاقة بلة توجه الحكومة إلى إنشاء مؤسسات رسمية رأى فيها ولد بوعماتو خطرا على مملكته التجارية التي انتعشت بقوة خلال السنوات الخمس بعد ولد الطايع.
ما بعد اطويلة
لم يقم رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو "بواجب العيادة والسلام" للرئيس محمد ولد عبد العزيز خلال إقامته الاستشفائية في باريس، وهو ما كان مؤشرا بالغ القوة على عمق الأزمة بين المحمدين. وفور عودة الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى موريتانيا بدأت الحملة الفعلية باعتقال السيد محمد ولد الدباغ مدير أعمال ولد بوعماتو، وإغلاق البنك العام لموريتانيا.
في الشباك
يمكن القول إن الرئيس محمد ولد عبد العزيز سجل عدة نقاط قوة في مرمى ولد بوعماتو، أبرزها
الإطاحة بمجلس الشيوخ مما أفقد ولد بوعماتو ورقة أساسية كان يراهن عليها، طيلة السنتين الماضيتين.
حجم المعلومات الهائلة التي حصلت عليها السلطة من خلال الأجهزة الشخصية للسيدين محمد ولد الدباغ ومحمد ولد غده
الحصار الاقتصادي لولد بوعماتو وإيقاف أعماله التجارية في موريتانيا.
غير أن الضربة القوية التي تلقاها ولد بوعماتو جاءت بدون توقع من الطرفين هي وفاة الرئيس اعل ولد محمد فال الذي كان يمثل أهم سند سياسي وعقل إستراتيجي بالنسبة لولد بوعماتو وفق مصادر مقربة منه، كما كان حليفه السياسي طيلة توليه لإدارة الأمن حيث وقف ولد محمد فال بقوة ضد محاولة مجموعة أهل عبد الله – المدعومة يومها من الوزير الأول اسغير ولد امبارك – الحصول على صفقة لإصدار جوازات سفر غير قابلة للتزوير، وبسبب الصراع بين ولد بوعماتو ومجموعة أهل عبد الله تم توقيف الصفقة نهائيا حتى زال نظام الرئيس معاوية.
ماذا بقي في الجعبة يجمع العارفون برجل الأعمال محمد ولد بوعماتو أن جعبته لا تزال محتفظة بأوراق ضغط وسيناريوهات متعددة في إدارة الأزمة مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
كما تتفق كلمة المراقبين أن العلاقة بين الرجلين وصلت إلى مرحلة اللا عودة وأن كل الاحتمالات السيئة مفتوحة بين المحمدين، وأن الصراع لن ينتهي مع نهاية المأمورية الثانية، للرئيس بل سيأخذ وجها آخر سواء كان الرئيس داخل السلطة أو خارجها وفق ما يقول المحللون
وتبقى صفحات الأيام مفتوحة لمعرفة الأسطر الباقية من واحدة من أغرب قصص العلاقة بين رجلين تقاسما خبز السياسة وملحها قبل أن تلعب بصداقتها لاعبات الشمال.
لريم آفريك
أحمد سيدي