يتساءل البعض بشدة، ومنذ أيام، عن حقيقة موقف موريتانيا من الأزمة التي تعصف بمالي المجاورة منذ الانقلاب الذي أطاح بآمادو توماني توري واحتلال شمالي مالي من قبل الحركات الإسلامية. وأكدت مداخلة وزير الشؤون الخارجية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على الأهمية التي توليها بلادنا لحل هذه الأزمة، دون أن تعبر عن موقف واضح من أي من الفرضيتين المطروحتين على الطاولة: الحسم العسكري أم المقاربة الدبلوماسية ؟
في موريتانيا، لزم الكثير من الوقت لإدخال الوضع بمالي في قائمة اهتماماتنا. كانت الحكومة المطلعة بشكل جيد نسبيا على الوضع، تتحاشى الحديث عنه علنا. على الأقل أمام الرأي العام. الأحزاب السياسية لم تكن مهتمة به -ببساطة- أو لم تدرك -أو أدركت بشكل غير كاف- حجم تأثيره على بلادنا.
وجاء الخطأ الذي ارتكبته وحدة من الجيش المالي وأودى بحياة تسعة مواطنين من "الدعاة" الموريتانيين الذين كانوا متجهين إلى باماكو لحضور مؤتمر لحركتهم، ليصدم الرأي العام الوطني. وكما يقال لدينا، فقد "فتح أعيننا" ولفت الانتباه إلى خطورة الوضع في مالي ومخاطر انزلاقه على بلدنا. وفجأة، أصبح تركيز الأحزاب السياسية، التي كانت تتناقر على مدار الساعة على شرعية النظام وعلى القضايا السياسية الداخلية، منصبا على هذه المسألة. والأهم من ذلك أنها بدأت تولي اهتماما أكبر بتداعيات الأزمة في مالي على السلم والأمن في موريتانيا. وأثارت أحزاب المعارضة المنضوية تحت منسقية المعارضة الديمقراطية نقاشا عاما حول قضية مالي لتعبئة الرأي الوطني حول أخطارها على السلام والاستقرار هنا. ولكن القلق الوطني بالأزمة في مالي ظل هامشيا جدا بالمقارنة مع الحجم الحقيقي للمشكلة وأخطارها على كل المنطقة. وإذا كان الخطاب السياسي في موريتانيا قد أولى الأحداث في مالي اهتماما خجولا، فما هو موقف النظام الموريتاني من الأزمة؟
لاعب متجاوَز
من الثابت أن نظام الرئيس عزيز كان ناقما جدا على الرئيس المالي السابق، آمادو توماني توري، الذي كان يُتهم بالتراخي في مكافحة التهديد الجهادي . وتذهب السلطات في نواكشوط إلى حد اتهام رئيس مالي السابق ونظامه بالتواطؤ مع المقاتلين الإرهابيين. وهذا التقييم، السلبي نوعا ما، لمسلك النظام السابق، ربما دفع الرئيس عزيز وصديقه ساركوزي للعمل على تهديد استقرار نظام باماكو، أو على الأقل مباركة ذلك، عبر إنشاء الحركة الوطنية لتحرير أزواد. وكانت هذه الحركة التي طردها الإسلاميون حديثا من شمالي مالي، حسب أكثر من مصدر موثوق، العمود الفقري لمخطط رسمته فرنسا-ساركوزي وموريتانيا-عزيز لإنشاء قوة قادرة على طرد القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي من منطقة أزواد. ونتيجةُ ذلك -وإن جاءت متأخرة- كانت -كما هو معروف- مناقضة تماما لما كانت ترجوه باريس ونواكشوط: تعزيز للإرهابيين واندلاع فوضى عارمة في مالي. ليس فقط في الشمال وإنما أيضا في الجنوب؛ حيث انهارت الدولة في أعقاب انقلاب النقيب سانوغو.
لقد فشلت -إذن- اللعبة المنسوبة لموريتانيا وفرنسا. وأكثر من ذلك، نشرت فوضى عارمة تنذر بجر المنطقة برمتها إلى الجحيم. فانتفاضة الطوارق لم تفشل فقط في استئصال تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وإنما عززت قبضته على 3/2 من مساحة مالي.
وأمام هذا الوضع الجديد، وجدت موريتانيا، التي لم تعد الطفل المحبوب لفرنسا في المنطقة منذ هزيمة ساركوزي وانتصار فرانسوا هولاند، نفسها مرغمة على تغيير نهجها. فتقربت من الجزائر أكثر، ولم تعد كثيرة الاستعراض لعضلاتها رغبة في التدخل بمالي. وقد استبعد الرئيس عزيز، الذي يبدو الآن واضحا فيما يخص الوضع في مالي -وفقا لكل الذين التقوه مؤخرا-، أي مشاركة لجيش بلاده في مغامرة عسكرية في هذا البلد الجار. وذلك على الرغم من استمرار بعض الشركاء في التملق له بالإشادة بالقيم "القتالية والنضالية" للجنود الموريتانيين في الصحراء.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن موريتانيا أصبحت حذرة جدا وجيشها لم يعد يغامر داخل أراضي البلد المجاور . لقد انتهت الحرب الاستباقية وعمليات توغل الجيش الموريتاني في شمال مالي. وتم تعزيز قواتنا الجوية بحصولها مؤخرا على طائرات جديدة. وفي الوقت ذاته فإن الجهاديين، من جانبهم، قد استحوذوا على ترسانة ليبية وحصلوا على وسائل متطورة للدفاع الجوي. هل هو توازن الرعب؟ من الصعب قول ذلك. خاصة أن هذا لا يفسر كل شيء.
ليس الموريتانيون بحمقى. فبإمكانهم تقييم الوضع، وهم يعرفون أن تعزيز الجماعات الإرهابية في الشمال يشكل خطرا حقيقيا على بلادهم. وهذا التهديد المتنامي على موريتانيا وباتجاهها يرجع إلى حقيقة أن قوات الجهاديين تتكون، في جزء كبير منها، من مواطنين موريتانيين، وحقيقةِ أن تجار المخدرات، شركاء الحركات الإرهابية في الشمال المالي أو حلفاءهم، يتطلعون إلى ميناء نواكشوط الذي يشكل نقطة التهريب الوحيدة لديهم من أجل نقل بضائعهم إلى سوق مزدهر جدا في أوروبا؛ حيث يعرض كيلوغرام الكوكايين الواحد بسعر يتراوح بين 40 ألف أورو و45 ألفا، وفقا لخبير فرنسي.
ومع ذلك، أَسَر مساعد لرئيس النيجر إلى "بلادي" باحتمال وجود معلومات تتعلق بصفقة أبرمها عزيز والقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي تتضمن اتفاقا على هدنة بين الطرفين! لا شيء يؤكد ذلك، ولكن من المعروف أن الحكومة الموريتانية تعاملت مباشرة مع التنظيم من أجل الإفراج عن دركي موريتاني مقابل أحد سجنائه. وهذا ما أكده الرئيس عزيز نفسه في مهرجان بمدينة نواذيبو.
ومهما يكن، فإن أزمة مالي تشكل مصدر إزعاج لجميع الجيران. بل وللشركاء الأجانب. وموريتانيا تتردد، بالتأكيد، مثل الدول الأخرى، في اتخاذ موقف واضح وثابت في ما يتعلق بما يحدث في مالي؛ حيث لا يُعرف، منذ اشتعال فتيل الأزمة، من أين يجب أن تكون البداية. وتوضح التصريحات الأخيرة المتناقضة لمسؤولين أمريكيين بشأن الأزمة في مالي، حجم اللبس وعدم الوضوح الذي يسود لدى الجميع.
Biladi