في التَّاريخيَّات الاستبدادية ؛ يعمل الحاكم المستبد على طمس وتحوير كل شيء ، سابق على حكمه. وبالموازاة نفسها يعمل على خلق وابتداعِ حياة عامة جديدة ، تكون مربوطة باسمه وترمز إلى قوته وبطشه ، وبسيطرته المطلقة على حياة الناس وإدارتها بالأسلوب الذي يوافق أهواءه ؛ أو بالأحرى نوباتِ جنونه التي لا تتوقف.
في هذا السِّياق ؛ يبني المُستبد الحاكم حول نفسه سياجات منيعة ، من مختلف أطياف رعيَّتِه ، ويوهم الجميع أنه القوي الأمين ، وأنه الصَّادق والمخلِّص لمجتمعه من تعاسة الحياة.
والمستبد هنا ؛ يتربع نصف الدَّائرة ، وعن أطرافه ؛ تجلس الأُطرُ الدينيَّة المَشْيخيَّاتِية التي تُشرِّعُ له فِعَاله ، وتبيِّن له أنها مقدسة ومُصانة ؛ وأنها مُرادُ الله ومشيئته التي اختاره لتنفيذها. بينما على جانب آخر ؛ يتثاءبُ رجال الأعمال المُتخمون من مزايا الحكم والمُسيطرون على موارد الدولة ، والمُسيِّرون لحياتها الاقتصادية ، على حساب المهمشين والجوعى من عباد الله الكُثر. يستمر هؤلاء في إثراء خزائن المستبد وتمويل مشاريعه ، وبالأساس ؛ بشراء الضَّمائر الميِّتة له في كل خرجاته للتبجح على خُصمائه من معارضة ، أو قوى حركية مختلفة.
وهناك على طرف الدائرة أيضا ؛ يتكدَّسُ البيروقراطيُّون ، والأوليغارشيُّون الذين وُرِّثُوا مناصبهم الوظيفية عبر سنين عديدة ؛ من جدٍّ إلى ابن إلى حفيد.. وهكذا تتشابك الأيادي مع بعضها البعض حفاظا على الهيكل الوظِيفيِّ هذا من أن يتشقَّق، أو يتسرَّب بداخله ما ليس مُلائما ومُؤمناً بنفس عقيدتِه.
أما في أسفلِ الدَّائرة تراتُبيًّا ؛ فيتموضعُ أراذلُ الناس ، المُهروِلون أبدا وراء أمْعائِهم ، يلتقطُون بعرَ الحاكم المُستبدِّ في عَرصاتِه وعَطساتِه التي يجود عليهم فيها بفُتاتٍ لا هو حقٌ لهم ، ولا هو بمالكٍ أصليٍّ له ، إنما هو مجموع قُوتِ الجَوعَى من مالِ الله العام ؛ الذي يُفترض أنه وديعةٌ لديه ، لا مِنحةٌ يَمنحها وقتما يَشاء.
وبهذا كله ؛ تتوافرُ للمُستبد كافة ظروفه التي تلعب بعقله ، وتُعمي بَصيرتَه ؛ فيغدُو مُتغطرسا أهبل ، لا يُلقي بالا لأحد، ولا ينتظر نصيحة من غير بنات أفكاره ذات التَّركيب الميكانيكيِّ المُختل ، فيَشْرعُ في التَّلاعب بكل مظاهر حياة الناس العامة ، ويدوس بأرجله كل رموزهم الثقافيَّة والاجتماعية التي تربو عليها ، ليُبدلهم تأريخاً غير تأريخِهم ، وحياة غير حياتِهم ؛ ليُشبع بذلك نزواتِ قلبِه المريض.