دأبت الحكومة الموريتانية على عقد اتفاقيات صيد مع شركائها في التنمية خاصة الاتحاد الأوروبي لفترة سنتين قابلة للتجديد، وهي الاتفاقيات التي ظلت مجالا للأخذ والرد طيلة العقود الماضية نتيجة عدم وجود سياسة اقتصادية واضحة المعالم تفضي بالبلد إلى نهج اقتصادي سليم، يجنب الثروة الوطنية أن تظل عرضة للأغراض الخفية والتلاعب الممنهج ذو الأبعاد المتنوعة، حتى أضحى قطاع الصيد عرضة للنهب والاستغلال المفرط من جهة واختفاء الخبرات الوطنية القادرة على صيانة وخلق التسيير الأمثل من جهة أخرى، على غرار ما يحدث مع جيراننا في الجنوب والشمال على الرغم من اختلاف الظروف وتفوق المخزون الوطني وتنوع أجناسه وارتفاع أسعاره عالميا مع تزايد الطلب عليه في السوق الدولية والإقليمية.
فالاتفاق الأخير بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي في يوليو 2012 خلق الكثير من القيل والقال من طرف بعض الفاعلين الاقتصاديين و المسؤولين الكبار في الدولة وحتى بعض رجال السياسة ممن يتابع النمو المضطرد لقطاع الصيد البحري، على الرغم من الارتياح الواسع داخل أوساط المجتمع المدني من نقابات وتنظيمات عمالية معنية بالقطاع نفسه.
لعل الظرفية السياسية الجديدة المجسدة في ديناميكية أوروبية للحصول على صيد مستديم والتي قوبلت من الجانب الموريتاني بإرادة سياسية هادفة في نفس المسعى، قلصت مخاطر اللعبة بالنسبة لموريتانيا التي تبحث عن حسن تسيير مصدرها الوحيد المتجدد.
فالاتفاق الجديد بدون شك خلق مجال واسع من التفاهم والموضوعية وكذا المردودية الذاتية على كلا الجانبين، مما يعطي الانطباع بضرورة إشراف السلطات على التمسك به من جهة مع دفع الجانب الأوروبي إلى نهج للشراكة المعقلنة والمبنية على الثقة المطلقة المتبادلة بين الشريكين الاستراتيجيين في منطقة الأطلسي وكذلك قيام سياسة اقتصادية وطنية موجهة للصيد مبنية على حماية الثروة الوطنية وعقلنة مجهود الصيد ودمجه في الاقتصاد الوطني كعائد ثابت قابل لتأسيس منظومة جديدة مع توفير الآليات الكفيلة بتطوير القطاع والاعتماد عليه في خلق فرص العمل وتوسيع الهياكل الاقتصادية القادرة على امتصاص البطالة والحد من ظاهرة الفقر وتحقيق نمو اقتصادي مرضي يتماشى مع حجم ثروتنا السمكية من مخزون المصايد المتنوعة.
ولعل أهم الخصائص التي تميز بها الاتفاق الجديد في مجال الصيد بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي، تبرز من خلال نقاط عدة يأتي في مقدمتها التشغيل وإلزامية حصول نسب من الطواقم البحرية الوطنية على متن الأساطيل الأوروبية بالإضافة إلى إتباع سياسة التفريغ داخل الموانئ الوطنية في العاصمة الاقتصادية انواذيبوا مع ما توفره من فرص الإنتاج والمردودية على اختلاف الأنشطة المدرة للدخل واتساع في الحركية التجارية داخل السوق المحلية.
كما أن الاستثناء الواضح لفئة الرخويات (الأخطبوط) المطلوب في السوق اليابانية يشكل هو الآخر أحد الركائز الجديدة لدفع عجلة تطوير القدرات الوطنية من خلال تشجيع الصيد التقليدي وكذلك ترقية دور الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك (SMCP) حتى تضطلع بالدور المنوط بها والمجسد في احتكار تسويق الثروة السمكية وضمان دخول العملات الصعبة من مردود السوقين الأوروبي والياباني، الشيء الذي سيكون له الأثر الإيجابي على عائدات اقتصادنا الوطني.
كما يوفر الاتفاق الجديد إطارا للتعاون المثمر بين الطرفين الموريتاني والأوروبي ويظهر امتيازات جديدة تعد أرض خصبة للتبادل التجاري الدائم والمستديم، أحرزت من خلاله الحكومة الموريتانية إضافة إلى الوسائل المادية والنقدية من خلال المقايضة المالية (compensation financière)،على حزمة من الإجراءات العملية ذات النفع على مستقبل القطاع من أهمها مراجعة الوعاء الضريبي على أساس كمية الأطنان المصطادة بدل حمولة البواخر (GT) أو حجم البواخر (TJB) الذي كان معتمدا، بما فيه من خسائر للبلد، كما تمت مراجعة المنطقة الإقليمية الخالصة للصيد المرخص بها (ZONAGE)، حيث اعتمد مقدار 13 ميلا بدل 20 ميل لصيد الأعماق، مما كان له الأثر من ناحية قد تؤدي إلى الاحتفاظ ب 3% من المصائد الخاطئة والغير مؤذن فيها في رخص الصيد، على الرغم أنها ظلت عرضة للنهب بدون رقيب ولا أية ضمانات ملزمة للجانب الأوروبي.
هذا الاتفاق على الرغم مما سلط عليه من الدعاية المفرطة، يشكل بالنسبة لسابقه إطارا مواتيا لكلا الطرفين ونموذج للتعاون الاقتصادي البناء، القابل للتطوير مع اعتماد مقاربات أكثر شمولية وتشاركية، عند توفر الكادر البشري المؤهل لقيادة قطاع الصيد البحري نحو اندماج حقيقي داخل الاقتصاد الوطني والاعتماد على ثرواتنا السمكية كمصدر للاستثمار والتمويل الموجه لإنعاش مختلف السياسات الاقتصادية الناجعة في البلد.