حكاية ارتفاع أسعار المحروقات في بلدنا هي حكاية لا كالحكايات، إنها حكاية لها أكثر من رواية، وتحتاج لأكثر من راوية، إنها حكاية اختلط فيها الاقتصاد والسياسة بأشياء أخرى، حكاية فيها شيء من الغموض، وشيء من السخرية، وكثير من الاستفزاز.
تقول إحدى الروايات بأن الحكاية بدأت يوم 20 ـ 10 ـ 2009، ففي ذلك اليوم أعلن "رئيس الفقراء" عن تخفيض هام في أسعار المحروقات (51 أوقية في سعر البنزين، و 36 أوقية بالنسبة للمازوت).
وبعد ذلك بأربعة أشهر، وتحديدا في يوم 19 ـ 02 ـ 2009، أعلن عن تخفيض للمرة الثانية، فانخفض سعر لتر البنزين ب13 أوقية، وأنخفض لتر المازوت ب21 أوقية.
وبعد ذلك بشهرين أعلن عن تخفيض ثالث، وكان ذلك في يوم 12 ـ04 ـ 2009، فأنخفض سعر لتر البنزين ب 20 أوقية، وهو نفس المبلغ الذي انخفض به سعر لتر المازوت.
حدثت كل تلك التخفيضات في فترة كان فيها "رئيس الفقراء" يعمل جاهدا لتشريع انقلاب السادس من أغسطس، ولقد دفعه ذلك السعي لأن يتخذ قرارات جريئة وشجاعة نالت إعجاب الكثير من الفقراء، وكان من بين تلك القرارات التخفيضات المتتالية في أسعار المحروقات.
ومما يجب ذكره هنا هو أن الحظ في تلك الفترة كان في صف "رئيس الفقراء". فمن قبل انقلاب السادس من أغسطس شهدت أسعار النفط تصاعدا غير مسبوق، ففي مطلع العام 2008 وصل سعر برميل النفط إلى 100 دولار($ )، وفي 12 مارس من نفس العام تجاوز حاجز 110 $، وفي 5 مايو تجاوز 120 $، وفي 26 يونيو قفز إلى 140 $، وقبل انقلاب السادس من أغسطس بشهر واحد، وتحديدا في يوم 11 يوليو وصل سعر البرميل إلى 147 $. هكذا ظلت أسعار النفط تتصاعد في الأسواق العالمية، ولكن مع مجيء "رئيس الفقراء" بدأت تلك الأسعار تنخفض بوتيرة غير مسبوقة أيضا، فأنخفض سعر البرميل في أول شهر بعد الانقلاب حتى وصل إلى 100 $، ثم انخفض إلى نصف سعره في شهر نوفمبر ليصل إلى 50 $، وفي 5 ديسمبر تراجع سعره إلى 40 $ فقط.
لقد تراجع سعر برميل النفط ب107$ في الأشهر الأربعة الأولى التي أعقبت انقلاب السادس من أغسطس، ولم يحدث مثل ذلك من قبل، منذ أن اكتشف العالم النفط وجعل منه سلعة تباع وتشترى.
لقد تراجع سعر النفط في الأسواق العالمية بأكثر من الثلثين في الأشهر الأربعة التي أعقبت انقلاب السادس من أغسطس، أتدرون ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني ـ على الأقل ـ من الناحية الحسابية، أن تنخفض الأسعار عندنا بالثلثين، عما كانت عليه قبل انقلاب السادس من أغسطس، أي أن تصبح على النحو التالي: 96 أوقية هي سعر لتر البنزين، و84 أوقية هي سعر لتر المازوت. وهذا يعني أن التخفيضات التي قام بها "رئيس الفقراء" لم تكن تتناسب إطلاقا مع مستوى التراجع الكبير الذي شهدته أسعار النفط في الأسواق العالمية.
المصيبة الكبرى هي أنه وبعد انتخابات يوليو 2009، وبعد حصول "رئيس الفقراء" على 52% من أصوات الموريتانيين، أحس "رئيس الفقراء" بأنه لم تعد له حاجة في اتخاذ قرارات جريئة وشجاعة ليؤكد بها شرعيته، لذلك فقد اتخذت الحكاية مسارا جديدا، وكان الضحايا هم الفقراء الذين انتخبوه ذات يوم عصيب من أيام يوليو.
لم ينتظر "رئيس الفقراء" طويلا، فأعلن عن زيادة في سعر المحروقات بعد أقل من ثلاثة أشهر من تنصيبه، وكانت الزيادة على النحو التالي: 13 أوقية للبنزين، و4 أواق للمازوت، وكانت تلك بداية لزيادات كثيرة ومتكررة بلغت في مجملها 30 زيادة خلال ثلاث سنوات، أي بمعدل عشر زيادات في كل سنة.
وتصاعدت وتيرة الزيادات في الشهرين الأخيرين، وتم تسجيل ثمانية زيادات في أقل من ثلاثة أشهر، ليزيد بذلك المتوسط على ثلاث زيادات كل شهر. وبالعودة إلى أصل الحكاية فسنجد أنه في الفترة التي وصل فيها برميل النفط إلى مستوى قياسي (147$ للبرميل) كان سعر لتر البنزين يباع في المحطات عندنا ب 290 أوقية تقريبا، بينما كان سعر المازوت في حدود 250 أوقية، وكان ذلك في آخر أيام حكم الرئيس السابق "سيدي ولد الشيخ عبد الله".
أما اليوم، وبعد تراجع أسعار النفط، والتي أصبحت تتذبذب حول ( 90 $) فقد وصل لتر البنزين عندنا إلى 432 أوقية، والمازوت إلى 375 أوقية.
وإذا ما بسطنا الأمور كثيرا، وإذا ما ربطنا سعر المحروقات عندنا بسعرها العالمي فقط، ودون أن ندخل أي عوامل أخرى في تركيبة السعر المحلي فإنه يمكن بعد تلك الافتراضات أن نحدد السعر الذي كان من المفترض أن يكون هو سعر المحروقات هنا في يومنا هذا. وهذا السعر ناتج عن حصيلة ضرب سعر النفط حاليا في الأسواق العالمية ( 93 $ للبرميل) بسعره عندنا في آخر أيام رئاسة "سيدي ولد الشيخ عبد الله" وقسمته بعد ذلك على سعر النفط في الأسواق العالمية في الفترة نفسها.
وناتج هذه العملية السليمة رياضيا، والمشكوك في صحتها اقتصاديا هو : 158 أوقية كان من المفترض أن يباع بها لتر المازوت في يومنا هذا، أي في يوم 23 سبتمبر 2012 ، و183 أوقية هي التي كان من المفترض أن يباع به لتر البنزين في نفس اليوم.
ولكن، من أين جاءت هذه الفوارق الكبيرة، فسعر اللتر الحقيقي للبنزين في يومنا هذا، يزيد ب 192 أوقية عن سعره الافتراضي، ويزيد سعر اللتر الحقيقي للمازوت ب249 أوقية عن سعره الافتراضي؟
يمكنكم أن تنتظروا مني كل شيء إلا أن أجيبكم على هذا السؤال، وعموما فلكل حكاية ألغازها، ودعونا نفترض بأن عدم الإجابة على ذلك السؤال هو لغز حكايتنا هذه.
ولكني في المقابل يمكنني أن أسر لكم بشيء : في كل حكاية مأساوية يتضرر منها الفقراء عليكم أن تفتشوا عن الشريرين الأبديين : صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
يقول صندوق النقد الدولي، وما هو بالصدوق في قوله، بأن 20% من أغنى الأسر الموريتانية كانت تستأثر ب65% من الدعم الذي كانت تخصصه الحكومة الموريتانية لأسعار الوقود، ولقد حدثكم "رئيس الفقراء" عن حجم ذلك الدعم في لقائه الثاني بكم، إذا ما كنتم تعدون أنفسكم من "الشعب".
ويقول صندوق النقد الدولي في تقرير له بأن كل 24 أوقية تنفقها الحكومة الموريتانية في دعم المحروقات لا يصل الفقراء منها إلا أوقية واحدة فقط، وربما كان يريد منا صندوق النقد الدولي أن نبيع المحروقات في دكاكين أمل (جرعة من البنزين لكل فقير يقف في الطابور لساعتين أو أكثر).
المهم أن "رئيس الفقراء" ـ والذي لم يعد يهمه الفقراء بعد أن انتخبوه وشرعوا له انقلابه ـ رضخ لضغوط صندوق النقد الدولي، ورفع الدعم عن المحروقات، وكان ذلك من خلال مقرر مشترك بين وزارة المالية ووزارة النفط، وهو المقرر الذي صدر في نهاية يوليو الماضي، وقد جاء تنفيذا لمرسوم كان قد صادق عليه مجلس الوزراء منذ شهرين. وكان هذا المرسوم قد ألقى ما كان يعرف ب"الهامش التصحيحي" الذي كانت الحكومة تدعم من خلاله أسعار المحروقات، ولم يكن مصير "الهامش التصحيحي" بأحسن من مصير بقية "الوعود التصحيحية" التي أطلقها "رئيس الفقراء" بعد انقلاب السادس من أغسطس، ولكنه تنكر لها بعد أن شَرَّع له الفقراء الانقلاب والانتخابات.
لم يكن مصير "الهامش التصحيحي" إلا كمصير منتديات التعليم، وتوزيع المتاح من العدالة، وإصلاح القضاء، والحرب على الفساد، وتجديد الطبقة السياسية، وتوفير فرص العمل، وتوفير مائة ألف طاولة مدرسية...إلخ
وخلاصة هذه الرواية هي أنك أنت يا عزيزي المواطن عليك أن تعلم بأنك كلما اشتريت لتر مازوت من أي محطة تقع في طريقك فإنك بذلك تدفع 122 أوقية فوق سعر اللتر عند وصوله إلى الميناء.
وتلك 122 أوقية موزعة على النحو التالي: 21.6 أوقية رسوم جمركية، 48 أوقية ضريبة على القيمة المضافة، 17.5 هامش ربح متروك للموزع، 8 أوقية هامش ربح لصاحب المحطة..إلخ
ولعل الجديد هنا هو أن الحكومة استحدثت ضريبة جديدة على المواطنين تضاف إلى ضرائب غريبة تم فرضها في وقت سابق. فأنت عندما تتحدث في هاتفك فإن الدولة تأخذ منك ضريبة على كل كلمة تلفظها، كما أنها تفرض عليك أوقية عن كل لتر تشتريه من البنزين، وهذه الأوقية تدفع لشركة يسمونها شركة النقل العمومي، والتي تكاد تنهار بفعل سوء التسيير، وحالها في ذلك لا يختلف عن حال بقية المؤسسات العمومية.
تصبحون على الرواية الثانية لهذه الحكاية..