كانت المعركة الأولى التي خاضتها البلاد هي معركة التحرير الوطني لنيل الاستقلال السياسي، وكان الهدف يقضي بأن تحكم البلاد من قبل الوطنيين من أبنائها، حكما متحررا من سيطرة الاستعمار الفرنسي، وكان من المعروف مقدما أن إنجاز تلك المعركة سوف يدخل البلاد في معركة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى.
هي معركة إنجاز التحرير الاقتصادي من أجل الوصول إلى الاستغلال الاقتصادي، وكان سهم هذه المعركة يتجه إلى تصفية الشركات والامتيازات الأجنبية، إما بالتأميم عن طريق الدولة، وإما ببيع أسهمها لتصبح وطنية بالأغلبية المطلقة على الأقل، وكانت الفكرة السائدة لدى الكثير من قيادات التحرير والحركات القومية في ذلك الحين، وربما لدى بعض الاقتصاديين والسياسيين، أن تحقيق الشرطين السابقين، سوف يحرك عجلة النمو الاقتصادي، ويطلق طاقات البلاد ومواهب مثقفيها وشبابها نحو الأفضل، فتحقق تنمية سريعة توفر على الأقل في المراحل الأولى من الاستقلال الحاجيات الأساسية لأوسع كم من الجماهير، وذلك من أجل تعبئتها للسير، بخطى حثيثة، نحو ارتفاع مستويات المعيشة. ما إن مضى هذا الاتجاه في سبيله وقطع شوطا حتى بدأت حقائق جديدة تتكشف، ولاسيما بعدما إعلان الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله، إنجاز المرحلتين الأولى والثانية،
وبدأ الدخول في إنجاز المرحلة الثالثة. بدأ الجيش الوطني يخطط للسيطرة على مقاليد الأمور، وأطاح بالنظام القائم وأفسد ما بناه النظام السابق، وأدخل البلاد في دوامة من الصراعات السياسية والانقلابات المتتالية، وكل ما جاء حاكم لعن سلفه وحمله تخلف البلاد، ولم يحدثوا أية تغييرات في البنية الداخلية والاقتصادية، والاجتماعية - الثقافية - الزراعية - التعليمية - السياسية... الخ. وتبين أن جميع الانقلابيين الذين سيطروا على الحكم لهم هدف واحد، وهو الفساد المالي والإداري، حتى يمكنهم اختلاس مقدرات البلد، وثرواته وتسخيرها لمن يسير معهم في هذا الاتجاه، فلا تنمية سريعة تحققت ولا صناعة ثقيلة أنجزت ولا برامج زراعية أثمرت ولا إصلاحات أنجزت، وأغرقت البلاد بديون خارجية أصبحت تهدد ما أنجز من استقلال سياسي واقتصادي، وبرزت حالات أخرى، تدهور فيها الوضع الإنتاجي عن ذي قبل خصوصا في المجالات المتعلقة بالغذاء وندرة في الموارد الأساسية وبطالة مقنعة تجاوزت 98% إلى أن وصلت البلاد إلى مجاعة حقيقة فقدت الدولة السيطرة عليها على الرغم من المساعدات الإنسانية، التي تقدمت بها بعض الهيئات الدولية وبعض الدول العربية، حتى هذه المساعدات وجهت إلى جيوب الأغنياء وكبار الضباط ولم تستفد منها بطون الجياع، هذا دون الحديث عن الأوضاع المؤلمة من ناحية أو الأوضاع المزرية من ناحية الحقوق والحريات، هناك من عذب وهناك من قتل وهناك من غيب سنوات في ظلمات السجون، بدون محاكمة حتى ولو كانت صورية أو عسكرية، كان الانقلابيون يزجون بالحركات السياسية في السجون بحجة زعزعة الأمن والاستقرار وتارة بحجة محاولة الانقلاب على السلطة. مدركين أن الحركات السياسية هي السبب في تأزيم الأوضاع السياسية، والأمنية، وأن عليهم إشراك إحدى الحركات في السلطة حتى يتسنى لهم الانقضاض على الأخرى، وبعد ذلك يسهل عليهم الانقضاض على جميع الحركات. كما قوضوا الدولة وسيادتها، وثرواتها لكن سرعان ما تبين لهم أن الصدام مع الحركات السياسية، لا يؤدي إلى نتيجة، بل يأزم الأوضاع أكثر ويزيد فعاليتها ونشاطها وقدرتها على التحرك، ويجعلها في نظر المواطنين هي المنقذ الوحيد من سيطرة الجيش على السلطة، التي أخذها بالقوة من مؤسس الدولة الأب المختار ولد داداه سنة 1978. واستمر صراع العسكريين على السلطة وتشبثهم بثقافة الانقلابات التي أدت إلى تردي الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والأمنية مما جعل الدولة، توشك على الانهيار. وفي هذه الظرفية اعتلى العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع موجة السخط الشعبية سنة 1984، وقام بانقلاب عسكري على نظام هيدالة وبتخطيط ودعم فرنسي، ولم يجد معاوية صعوبة في الاعتراف به من قبل الشعب الموريتاني الذي عانى الكثير من الذل والمهانة، من قبل هيدالة ونظامه التعسفي وهذا ما جعل الغرب يعترف بمعاوية ويقدم له الدعم السخي. وكان معاوية تلميذا جيدا فتلقف بسرعة البرق، التحولات الدولية من حوله وأصبح يدرك أن المرحلة الجديدة أصعب بكثير، نظرا لأن العالم قد تغير وأن عليه اللحاق بالركب وإلا فإنه سينقلب عليه آخرون كما انقلب هو على هيدالة ونظامه القمعي، فبدأ يفكر في تقديم مشروع الديمقراطية ودخول البلاد مرحلة جديدة تختلف عن المراحل السابقة. إلا أن هذا المشروع يحتاج إلى رجال مستعدين للتضحية والصدام، فهذه المرحلة تتطلب تحقيق نهضة شاملة للبلاد، وهذا لا يمكن إلا بسياسيين ومناضلين ورجال دولة قادرين على التحدي وفي نفس الوقت لهم وزن شعبي حقيقي وباستطاعتهم التأقلم مع النظام الدولي الجديد. ودخلت البلاد في استحقاقات انتخابية وترشح العقيد في الانتخابات الأولى ونجح بقدرة قادر وبتخطيط عسكري، لكنه لم يتمكن من تخفيف قبضة الجيش على السلطة في المرحلة الأولى. لكن الجيش بدأ يؤمن تدريجيا بأنه جيش جمهوري وعليه أن يلعب دوره الطبيعي وهو حماية الحوزة الترابية للبلد، وحماية المكتسبات الديمقراطية. وبأن عصر الانقلابات قد ولى. لكن هناك ضباط لم يرق لهم ما قطعته البلاد من تحولات ديمقراطية وتنموية في شتى المجالات. وكانوا هم اليد التي يبطش بها ولد الطايع والعين التي ينظر بها والأذن التي يسمع بها وكانوا أقرب المقربين إليه. وبدأوا يفكرون في سير عجلة التنمية والديمقراطية إلى الوراء وانقلبوا على ولد الطايع بدافع واحد وهو حب الشهرة ورغبتهم في الحصول على الثروة بطريقة سريعة. إلا أن المتمردين بزعامة محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد الغزواني أدركوا أن هذه الخطوة عاقبتها وخيمة ولن يمكنهم الحصول على ما يصبوا إليه إذا لم يعيدوا المسار الديمقراطي على ما كان عليه قبل الانقلاب. وأعلنوا عن انتخابات سابقة لأوانها وأنهم لن يترشحوا فيها. وكان من سخرية القدر أنهم وقع اختيارهم على سيدي ولد الشيخ عبد الله يعتقدون أنه سيكون دمية يلعبون بها حسب رغباتهم ونزواتهم. وحينما شعر سيدي ولد الشيخ عبد الله بخطورتهم أقالهم من وظائفهم العسكرية. حسب صلاحياته الدستورية، فأعادوا الكرة مرة أخرى وقاموا بتمرد ثاني عليه، مدركين خطورة التمرد الذي قاموا به لكن الرغبة في الاستحواذ على كل شيء وتدمير بنية الدولة الأساسية. وإعادة عجلة البلاد إلى الوراء هي مسألة لابد منها حتى يسيطروا على مقاليد السلطة بسهولة، ودعمهم في ذلك التمرد سياسيين وأنا شخصيا أحدهم وأحمد ولد داداه. على أساس أننا كنا نختلف مع سيدي ولد الشيخ عبد الله في الكثير من القضايا على الرغم من ثقل الروابط التقليدية التي تربط بين أحمد ولد داداه وسيدي ولد الشيخ عبد الله، ويبدو أننا لم نكن ندرك الوضع الجيو-سياسي- للبلد والنوايا الحقيقية التي يبيتها المتمردون بقيادة محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد الغزواني، فهؤلاء قد تسللوا في الظلام كالخفافيش لبسط سيطرتهم على كل شيء حتى يتمكنوا من تحقيق أطماعهم. وهي الاستحواذ على المال العام واختلاس ما أمكن اختلاسه. ولو على حساب جيوب البسطاء أو من جيوب الفقراء أو من أموال الأغنياء فالثراء في نظرهم جائز ولو بالشبهات حسب مفاهيمهم التي لا تفرق بين الحلال والحرام.. إن علينا إدراك هذه الحقائق التي تتطلب منا أعلى درجات الحذر والدقة سواء كان ذلك في سياقها أو التعامل معها بحزم وجدية حتى نتخلص من هيمنة وسطوة الجنرالات.