في أعماق البلاد الموريتانية، وبالتحديد مقاطعة تامشكط بولاية الحوض الغربي تكثر ظاهرة عمالة الأطفال وهي ممارسة وسلوك تجرمه القوانين الدولية التي التزمت الدولة الموريتانية بملاءمتها مع المنظومة القانونية الوطنية. وكان التشريع الوطني قد أقر بعض القوانين ذات الصلة بصون حقوق هذه الفئة من بينها على سبيل المثال لا الحصر: القانون المتعلق بالحماية الجنائية للطفل، والقانون الأخير المتعلق بالخدمة المنزلية، الذي يكفل للعامل الحق في توقيع عقد عمل مع رب العمل، وراتب لا يقل عن الأدنى للأجور، فضلا عن الحقوق المتعلقة بالرعاية الاجتماعية والتأمين الصحي، والحق في الإجازة، المبينة أنواعها بحسب ذلك القانون. هذا إلى جانب القانون المتعلق بالعنف ضد المرأة، وقوانين أخرى ذات صلة... لكن يلاحظ مع الأسف الشديد أن بعض تلك القوانين بقي مجرد حبرا على ورق دون أن يرى طريقه إلى التطبيق الفعلي مع غياب التحسيس بأهميته، ويبقى عدم الوعي بمجمل تلك التشريعات وغيرها عاملا آخر يلعب دورا في انتشار بعض الممارسات المخالفة لروح القانون.. وفي انتظار أن تجد تلك التشريعات طريها إلى التطبيق على أرض الواقع تستمر الظاهرة في التفاقم مع ضعف وهشاشة الوضع الاجتماعي في ذلك المكان القصي من أرض الوطن فضلا عن استغلال تلك الوضعية الحرجة لبعض السكان بالنظر إلى ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية الهشة... لكن ذلك لا يبرر التمادي في استغلال هذا الوضع الذي تنعكس نتائجه السلبية على وضعية التعليم بصفة خاصة، إذ تجعل تلك الوضعية غالبية الأطفال العاملين لا يدرسون، والغريب في الأمر أن البنات منهم قد يتعرضن أحيانا لبعض الممارسات اللا أخلاقية والمخلة بالشرف. ولا تبرح معناتهن تلك مكانها.!!. بل تبقى حديثا عابرا يتم تداوله ببساطة بين الناس.. ويبقى كذلك الأمر حديثا عاديا دون متابعات قضائية، وذلك بالنظر إلى غياب دور هيئات المجتمع المدني هناك وكذا غياب الوعي القانوني. وانتشار ثقافة الحياء الاجتماعي التي توثر الكتمان والتستر على مثل تلك الحالات بدل إخراجها للعلن، وإنصاف الضحايا بمتابعة الجناة، وإحقاق الحق ليعتبر آخرون.!!
والأغرب من ذلك هو استجلاب الأطفال من القرى والمدن المجاورة للعمل في المنازل.. وتارة يتم استجلابهم من المناطق الحدودية والجارة مالي... هي إذن ممارسات يجب وضع حد لها من طرف السلطات المختصة، و على المنظمات الحكومية العاملة في المجال أن تأخذ مسؤوليتها في متابعتها وتكثيف حملات التعبئة والتحسيس لهذا الغرض حتى نحمي أجيال الغد من هذا الاستغلال المفرط ونؤمن لهم مستقبلا مشرقا.
بدورى كنت قد شاركت في ورشة تحسيسية عام 2015 منظمة في المقاطعة حول: القوانين المتعلقة بالعنف ضد المرأة والتمييز. وفي مداخلة لي أثرت الموضوع فدار نقاش عميق وكدت أطرد من القاعة لولا إصراري على إيصال رأي الشخصي في الموضوع وحريتي في التعبير عنه.. وما كان لي إلا أن اتهمت حينها بالعنصرية، وبالانتماء لحركة "إيرا " التي لم أنتسب لها يوما.
ومنذ سنواتي الأولى في المقاطعة شاهدت كل تلك الممارسات وغيرها كثير، واضطررت بحكم وضعيتي المهنية أن اتريث حتى أتبين الأمر، ولكن بضمير إنساني لم أستطع السكوت على مثل هذا الحال. فقررت بدوري على الأقل، وبأقصى جهد الكتابة في الموضوع عسى أن يجد آذانا صاغية، أو يصل إلى من يهمه الأمر. وهنا أتساءل:
إلى متى سيظل هذا الوضع؟ وهل من المنصف أو من الإنسانية أن يستمر الإنسان في استغلال إنسان آخر بالنظر إلى هشاشة وضعه الاقتصادي وضعف حالته الاجتماعية، ليرضخ الأخير مكرها إلى الضغوط... وبالتالي تفرض تلك الظروف عليه التبعية للآخر..؟!!. أين وكالة التضامن من مثل هذه الحلات..؟ أم ان ما نسمعه عنها يبقى مجرد جعجعة بدون طحين..؟ أم هي مجرد ذر للرماد في الأعين؟.. أليسوا أولئك بشر ولهم الحق في تلبية رغباتهم الاجتماعية والاقتصادية باسم المصلحة العامة. استنادا إلى الدور الملقى على عاتق الدولة الموريتانية على ضوء نظرية العقد الاجتماعي، وإلى ما تكفله القوانين الوطنية من حقوق..؟! أما آن الأوان لنتطلع إلى غد أفضل وندرك أن الوطن يسع الجميع..؟؟ أم نسينا أو بالأصح تناسينا أن دستورنا أقر العديد من الحقوق في المادة العاشرة منه.. من بينها على سبيل المثال لا الحصر: الحق في المساواة في الأعباء العامة وفي تكافؤ الفرص..؟
هذا للأسف الشديد واقع يندى له الجبين، وعلينا أن نسعى جميعا إلى تغيره ونتطلع إلى ما هو أفضل ونرسي دعائم قوية كفيلة بتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لجميع المواطنين وترسيخ قيم الوحدة الوطنية والتضامن الاجتماعي. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى ضرورة الارتقاء بنظومتنا التربوية ومراجعة برامجها وتقييمها.. وإعادة النظر في سياستها حتى نضمن لأجيامها مستقبلا آمنا.. فالتعليم هو جواز سفر المستقبل.. ولنسعى جميعا إلى بناء ذلك المستبقل بعيدا السياسات الارتجالية والاقصاء والتهميش.