لم تنعم موريتانيا منذ استقلالها قبل أكثر من نصف قرن من الزمان بالحكم، الذي يعني التشارك والتفاعل بين أقطاب مشهد سياسي يديره المدنيون، إلا مرتين فقط. المرة الأولى تمت خلال مرحلة تأسيس الدولة، ودامت 18 عاما، بينما بدأت المرحلة الثانية مع نهاية سنة 1991 خلال فترة حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطائع.
المرحلة الأخيرة أجبر فيها العسكريون على مغادرة الحكم تحت طائلة المكافآت المادية، فقد خصص ولد الطائع إقطاعية اقتصادية لكل ضابط عضو في مجلسه العسكري، لكنه بالمقابل أجبرهم على فتح الطرق المؤدية إلى مفاصل الحكم إمام المدنيين، ولذلك سجل أطول فترة حكم عرفتها البلاد حتى الآن.
وما عدا هاتين الفترتين ظلت الدولة تئن تحت وطأة السلطة التي تعني الخشونة والأوامر تحت إمرة عسكريين لا يتقنون غير لغة الدفاع والهجوم، لتشهد فترات تناوبهم الجبري على النظام سلسلة من الانقلابات التي كانت ثمرة إشراك العسكر في السلطة التي لن يرضاها احدهم للآخر، ومن هنا تولدت حالات من عدم الاستقرار السياسي للبلاد.
أما الآن وقد أمضى الرئيس محمد ولد عبد العزيز ثلاث سنوات من محاولة إمساك الدولة من خلال الحكم، إلا انه، ورغم ما استطاع إنجازه على ارض الواقع، لم يوفق بعد في الخروج من مرحلة السلطة التي بدأها سنة 2005 وأكملها سنة 2008.
ولكي يستطيع ولد عبد العزيز الوصول بأمان إلى مرحلة الحكم، عليه بإتباع أربع خطوات تؤمنه من خطر الانقلابات التي تعصف بالسلطة من حين لآخر:
أولا: إبعاد المؤسسة العسكرية بشكل حقيقي وفاعل من خلال إعادة الانتشار خارج السلطة التي كانت هيمنتها عليها واضحة من 2005 وحتى الآن وكأننا أصبحنا نعيش مرحلة ما بعد 78
ثانيا: تحديد مصير أغلبيته واشتراكها في الحكم حتى تكون مؤهلة لتحميلها مسؤولية التصدي للمعارضة وهي التي لا تتولى الآن أكثر من دور هجاء المعارضة ومحاولة تقزيمها.
ثالثا: إشراك المعارضة بقدر ما يخولها الدستور والإحجام عن نعت المعارضين بكافة الأوصاف البذيئة حتى بالطعن في أنسابهم.
رابعا: تشكيل حكومة ذات صلاحية حقيقية نابعة من المشهد السياسي، بدل اختصارها على أشخاص عديمي الخبرة والتأثير والصلاحيات؛ كما يقول المراقبون.
إن اكبر خطأ يمكن أن يرتكبه ولد عبد العزيز بحق الوطن، بل وبحق مستقبل سلطته، هو مزجه للعسكريين بين النفوذ السياسي والاستفادة المادية من خلال إشراكهم في سلطة لن تقف أطماعهم فيها عند حد معين، وهو ما يعرض البلد للمزيد من عدم الاستقرار السياسي الذي يعني تعطيل عجلة التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويجعله عرضة لان يكون حقل تجارب للعسكريين الطامحين للوصول إلى السلطة ليرى كل منهم كيف يمكنه الاستمرار في القصر أكثر من رفاقه السابقين، ولن يعدم أي منهم طبقة سياسية مدنية تدعو إلى تأليهه وإقناعه بأنه رسول السماء الذي لا غنى للحرث والنسل عنه، كما فعلوا بأسلافه.
لقد جعلت السلطة الحالية 50 ضابطا يدورون في فلكها متنفذين سياسيا، ومتحكمين اقتصاديا، ومضايقين للمدنيين في كل شيء حتى في الوظائف المدنية العادية كالحراسة التي ظلت تشكل مصدر رزق الكثير من المدنيين، فاستحدثوا شركات أمنية خاصة أعادت العسكريين المتقاعدين إلى أعمال كانت من نصيب آخرين لا يتقاضون معاشا ولا يتقنون غيرها من الأعمال.
فمتى سيدرك ولد عبد العزيز أنه بعسكرة النظام يقضي على كل المظاهر المدنية التي يمكن أن تكون عونا في أعادة تأسيس الحكم، ويضع نفسه في مرمى أطماع قد يجد نفسه عاجزا عن لجمها قبل أن تعيد كرة النظام إلى مربعها الأول؟
السفير