بعد الاتفاق على التعديلات الدستورية المنبثقة عن الحوار الأخير باشرت المعارضة المقاطعة لهذا الحوار حملة على نتائج الحوار أولا، وعلى التعديلات الدستورية ثانيا، والتعديلات الدستورية أعلن تمريرها عن طريق استفتاء شعبي دون ذكر المصادقة عليها بمؤتمر برلماني أولا، لأن الأمر كان بديهيا بحكم الدستور حيث لابد قبل عرض التعديلات على استفتاء شعبي من المصادقة عليها من طرف البرلمان على رأي بعض القانونيين.
وهنا، وفي ظل حراك بين أعضاء بمجلس الشيوخ، وتلويح بمقاطعة التصويت على التعديلات بحجة ظاهرها استياء من تصريحات لوزراء في الحكومة اعتبروها إساءة لهم، وباطنها مناورات وضغوط على الرئيس للحصول على ضمانات لمستقبلهم السياسي بعد حل غرفتهم، استغلت المعارضة هذا الحراك الذي قد يحول دون تمرير التعديلات الدستورية عبر البرلمان، وما في ذلك من إعفاء لها أمام مناصريها من مشقة حملة أعلنت عنها للتصدي لتمرير التعديلات عبر الاستفتاء الشعبي ليست واثقة من نجاحها في مقاطعة الشعب لهذا الاستفتاء.
وتابعنا آنذاك القيادي في المعارضة المقاطعة للحوار، محمد المصطفى ولد بدر الدين، على شاشة إحدى القنوات وهو يقول إن القضية ليست قضية التعديلات الدستورية ولا المواد المعروضة للتغيير والتي لا اعتراض علي بعضها كما قال، وإنما القضية هي عدم قانونية هذه التعديلات دون مرورها بالبرلمان أولا، كما تم الاستنجاد بقانونيين " احتياطيين " لهذا النوع من الحملات أكدوا أنه لا يمكن قانونيا عرض التعديلات على الاستفتاء قبل التصويت عليها من البرلمان، وساعتها لم نسمع أحدا يتحدث عن عدم شرعية الشيوخ لأنهم حينها هم " المنتفضون " ضد تجاوزهم بالتعديلات إلى الاستفتاء الشعبي، وهم المعول عليهم في إجهاض هذه التعديلات وبالتالي إجهاض نتائج الحوار.
ولأن الضمانات التي أدت بأعضاء من مجلس الشيوخ إلى هذا الحراك بيد السلطة وهي من تستطيع تقديمها وليس المعارضة، فقد التقى الرئيس بهؤلاء الأعضاء وطمأنهم على مستقبلهم السياسي كجزء من أغلبيته وداعميه وستظل مكانتهم محفوظة، وبذلك طوي هذا الخلاف وعبر الشيوخ عن التزامهم بتوجهات نظامهم وحزبهم، معبرين عن استعدادهم لدعم ومسايرة ما يقرره النظام والحزب، وهكذا خُسرت الجولة الأولى من هذه المعركة بتراجع الشيوخ عن رفضهم المشاركة في المصادقة على التعديلات الدستورية، وأصبح تمرير التعديلات الدستورية عبر البرلمان أمرا آزفا بالنظر إلى الأغلبية الكبيرة التي يتمتع بها النظام وأغلبيته في غرفتي البرلمان.
بعد تسوية قضية تذمر الشيوخ ارتأت الحكومة أن تقتصر في إقرار التعديلات الدستورية على عرضها على مؤتمر برلماني والتخلي عن الاستفتاء الشعبي بعد تقديرها لتكاليفه غير الضرورية ما دامت طرق إقرار التعديلات الدستورية اثنتان، هما التصويت في مؤتمر برلماني أو تنظيم استفتاء شعبي، والصلاحيات بتقدير أي الطريقتين أنسب هي من اختصاص الرئيس، وهو ما اعترض عليه الرئيس مسعود ولد بلخير مبررا اعتراضه بأن الاتفاق تم أصلا على طرح التعديلات للاستفتاء، وهنا تنبهت المعارضة إلى أن هذا الاعتراض من الرئيس مسعود يعتبر فرصة لتدشين مرحلة أخرى من مراحل مجابهة التعديلات الدستورية.
والاحتمالات هنا تقتصر على احتمالين تأخذ المعارضة كلا منهما في الاعتبار، فإما أن يتوصل الرئيس خلال لقاءاته بشركاء الحوار، خاصة مسعود ولد بلخير وبيجل ولد هميد، إلى صيغة توافقية كتلك الصيغ التي توصل معهما إليها قبل الحوار وأثناءه وسارت بالحوار إلى نهايته التوافقية، تقضي هذه الصيغة بالإبقاء على فكرة تمرير التعديلات عبر المؤتمر البرلماني، وهي صيغة قانونية دستورية لا غبار عليها، أو أن يصر شركاء الحوار على رفض الاكتفاء بالمؤتمر البرلماني والذهاب إلى استفتاء شعبي، وهو ما نقل عن الرئيس استعداده للنظر فيه باعتباره أمرا ممكنا..
المعارضة الآن في هذه المحطة من محطات مجابهة التعديلات الدستورية، ولا تعرف بعد أي الصيغتين سيُلجأ إليها، ولذلك رمت الصيغتان بحجر عدم الشرعية معا، فأصبح الشيوخ الذين لم تتحدث عن عدم شرعيتهم عندما كانت تأمل منهم قيادة إجهاض التعديلات الدستورية، أصبحوا اليوم غير شرعيين لأن الغرض من مهادنتهم قد زال.. ولو كان مجلس النواب خاليا تماما من نواب المعارضة لأضفي عليه عدم الشرعية هو الآخر، إلا أنه تم تجنب ذلك لأن حديثا سابقا لأعضاء في المنتدى عن خلو مجلس النواب من ممثلين للمعارضة ولد توترا وردا فوريا من حزب " تواصل " الممثل في هذا المجلس بنواب، ولذلك استعيض عن اتهام مجلس النواب بعدم الشرعية بالهروب إلى الأمام واللجوء إلى مناشدته بعدم التصويت على التعديلات الدستورية، ذلك أن مجلس النواب مكون من أغلبية رئاسية كبيرة، وليس من المألوف أن تطلب معارضة من نواب أغلبية رفض تعديلات تقدمها حكومتهم وحائزة على موافقة أحزابهم!
أما عرض التعديلات على استفتاء شعبي الذي أصبح أمرا واردا، فقد تم استباقه ووصفه بعدم الشرعية من قبل المعارضة هو الآخر، ولم تقدم لنا من الأدلة على عدم شرعيته سوى ما قالت إنه الحشد الذي نظمته قبل أشهر، والذي ترى أنه لا يترك مجالا للشك في رفض الشعب الموريتاني لهذه التعديلات، فما هي هذه الوكالة عن الشعب ومن حررها ووقعها ومن هم شهودها؟ وماذا لو عمد الرئيس وأغلبيته ومناصروه والأحزاب المشاركة معه في الحوار إلى حشد آخر وملئ ساحة ابن عباس بضعفي ما حشدته المعارضة فيها وهم قادرون على ذلك؟ هل ستقبل المعارضة بأن ذلك دليل على قبول الشعب الموريتاني لهذه التعديلات ليتم إقرارها بالحشد دون غيره؟ وهل يكفي حشد بضعة آلاف من سكان العاصمة لتقرير مصير إي قرارات أو نتائج حوار؟ أين هم بقية سكان نواكشوط وما هو رأيهم، وأين هم سكان ستين مقاطعة ومركز إداري ومائتي بلدية على عموم التراب الوطني وما هي آراؤهم أيضا؟!
القول الفصل في تمرير هذه التعديلات هو ما سيقوله الشعب الموريتاني بالتصويت في الاستفتاء إذا قررت أطراف الحوار اللجوء إليه، ولا توجد عوائق سياسية أمام إقرار هذه التعديلات عير استفتاء كما يعتقد البعض وما تابعناه من " رسائل دقيقة وخطيرة وكارثية " وصلت للرئيس عن مدى الرفض الواسع من طرف الشعب لهذه التعديلات!
فلا أساس من الصحة لتلك الرسائل، وكل ما في الأمر هو أن سنة مرشحة لأن تكون بها عدة استحقاقات برلمانية وبلدية ومحلية، كان من الأفضل عدم شحنها باستفتاء شعبي على تعديلات يسمح القانون بإقرارها عبر البرلمان ترشيدا للموارد والوقت والجهود.. وقد تكون كل العوائق أمام هذا الاستفتاء قائمة، مادية كانت أو فنية أو لوجستية أو ظرفية إلا العوائق السياسية، إذ ما هي النقاط في هذه التعديلات التي تهدد كيان البلد أو أمنه أو سيادته أو حوزته الترابية، أو تلك التي تمس بالسلب حياة الناس أو طرق عيشهم أو مصالحهم أو تنقلاتهم أو حرياتهم..؟ كل هذه النقاط المنبثقة عن إجماع سياسي ومدني واسع ظلت في أغلبها مطالب شعبية وسياسية بما في ذلك مطالب للمعارضة نفسها، ولا دليل على ذلك أكبر من تركيز مناهضي هذه التعديلات على نقطيتين من نقاطها لا تمثلان سوى جزء بسيط منها هما نقطتي العلم والنشيد، ولم يأت بيان المنتدى الأخير إلا على ذكر ما سماه " تشويه " العلم وتغيير النشيد، وذلك من بين لائحة طويلة من مقترحات الإصلاحات!
فإذا تقرر اللجوء لاستفتاء شعبي لإقرار هذه التعديلات، وتم القيام بحملة شرح وتعبئة نشطة من قبل من أقروها، وقامت الهيئات والسياسيون في الأحزاب المشاركة في الحوار بمسؤولياتهم في تعبئة قواعدهم الشعبية، فستمر هذا التعديلات دون أية مشكلة وبنسبة تصويت ومشاركة أكثر من كافيتين لإقرارها، وليتذكر من سيتصدى لهذا الاستفتاء دورتين انتخابيتين أخيرتين، برلمانية ورئاسية، أعلن مقاطعتهما والعمل على إفشالهما، وكون لذلك اللجان الشبابية والنسائية ولطخ الجدران بعبارات المقاطعة والحث عليها فما الذي حدث؟ شارك المهتمون بتلك الانتخابات من الموريتانيين في هاتين الدورتين وكانت نسبة المشاركة والتصويت فيهما نسبة لا تقبل الطعن. وحتى إذا شارك الشعب الموريتاني في هذا الاستفتاء بالشكل الذي يضمن تمرير هذه التعديلات، فإن المعارضة جاهزة من الآن للطعن في ذلك أيضا، وستعتبر أفراد الشعب الذين شاركوا في هذا الاستفتاء مغفلين ومسلوبي الإرادة.. فالبرلمان " غير شرعي " والشعب " مغفل "!
علما بأن هذا البرلمان هو نفسه البرلمان الذي سيُقر نتائج الحوار لو كانت المعارضة المقاطعة شاركت فيه ووافقت على نتائجه، كما أن الشعب الذي سيصوت عليها عبر الاستفتاء هو الشعب نفسه! وواهية هي كذلك حجة انبثاق هذه التعديلات عن حوار غاب عنه جزء من الطيف السياسي، فليس من المنطق ولا من السياسة، ولا يكفي، أن نستمرئ الرفض والغياب بإرادتنا ليكون كل ما لم نشارك فيه غير شرعي!
من حين لآخر يتهم بعض قادة المعارضة هذه المعارضة بتضييع الوقت والجهد في ما لا طائل من ورائه كالمسيرات والمهرجانات والبيانات، ويكون ذلك مباشرة أو بشكل ضمني، وبالأمس اقترح رئيس حزب " تواصل " على حلفائه في المعارضة الإعداد لرئاسيات 2019 بشكل مبكر.. وإذا كان المعنيون لم يفهموا في هذا الاقتراح عدم تحمس للانشغال بحملات مجابهة إقرار نتائج الحوار الأخير، خاصة أن حزبه اعتبرها نتائج مقبولة.. مع رسالة أخرى لهؤلاء الحلفاء على شكل تهيئة لهم لقرار مشاركة الحزب في أي انتخابات قادمة حتى لا يتفاجؤون به كما حدث في نيابيات 2013، فإن منا من فهم الأمر على ذلك النحو أو نحوه.. بل ومنا كذلك من يرى أن كل هذه الحملات ضد التعديلات الدستورية ما هي إلا تحمية أو استعداد مبكر لما قبل الرئاسيات من محطات انتخابية، وإلا فما هي البدائل؟!