لقد كان من قدري في الآونة الأخيرة أنْ طوّحتْ بيّ النَّوى كغيري من المواطنين الموريتانيين وهم كثر, ومن جميع الفئات والأعمار والأعمال والأهداف والمشاربْ...! إلى ربوع مناجم الذهب بشمال البلاد حيث التنقيب السطحي عن الذهب, وما أدراك ما التنقيب السطحي عن الذهبْ,!؟
خليليَّ هذا ربع عزة فاعقلا***قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلَّت.,
إن الزائر لتلك الربوع لأول وهلة يظن أنه قد شطّتْ به النّوى وطرحته أيَّ مطرح بعيدا عن الأهل والأوطان...! وسيجد بها من المفارقات والمطبات والنوادر والغرائب وو... ما لا حصر له! ومما لاشك فيه أنك إذا كنت كاتبا أو شاعرا عندما تطأ قدماك تلك الربوع النائية والمترامية الأطراف والسهول والكثبان...!
لا بد وأنْ يداعبك القلم والقرطاس ويراودانك أن تدردش حولها ومهما كان انشغالك وتفانيك في خدمة ما جئت من أجله من أهداف ومقاصد...,
إن الهبَّة المنقطعة النظير والتضحيات الجسام التي بذلها المواطنون الموريتانيون ومن جميع الأعمار والمستويات ومن شتّى ربوع الوطن شرقا وغربا وجنوبا وشمالا, في مجال التنقيب السطحي عن الذهب, لو قدِّر لهم أنْ وظفوا النّزر اليسير منها في ميادين أخرى أكثر حيوية وإلحاحا كالزراعة والصناعة والصيد والتنمية الريفية وو...مثلا لحققنا فيها اكتفاء ذاتيا قلَّ نظيره إنك لتجد في تلك البلاد النائية, والصعبة المراسْ, الشيوخ الضعاف وقد بلغوا من الكبر عُتيّاً, وكأنهم يسابقون ما بقيَّ لهم من ساعات وأيام, ولا شك أنك ستصاب بالشفقة والألمْ, بل ربما بالحيرة والسَّأمْ...! لو رأيتهم وهم يكابدون أقسى المشقات والمعانات لاهثين وراء حلم قلَّ أنْ يتكررْ أحْرى أن يتحقق, وكأنَّ لسانُ حالهم يشدو مع الشاعر القديم:
فسرْ في بلاد الله والْتمس الغنى***تعشْ ذا يسار أوْ تموتَ فتعذرا
وبكل تأكيدٍ ستجد الأطفال الصغار هناك لا حول لهم ولا قوة, وقد نزحوا بعيدا عن كراسي الدراسة وكتاتيب المحظرة, ومضارب الأحبة والأترابْ, بعيدين كل البعد عن أحضان الأمهات عساهنَّ يُواسينَ أسىً أوْ يُبلسمنَ جراحا أو أو...!! في أرض بها من الشدائد والصِّعاب والقرِّ والحرِّ ما الله به عليم, إنّ أيام الحرِّ في تلك الربوع القاحله, تذكرني بقول أميرُ الصعاليك الشنفرا في لاميته:
ويوم من الشعرا يذوب لؤابه***أفاعيه من رمضائه تتململ
نصبتُ له وجهي ولا كنَّ دونه***ولا سترَ إلاّ الأتحميُّ المرعبل
وهُنا يتجلَّى كرم وتضامن الشعب الموريتاني الأصيلْ في أبهى صوره ومعانيه, حيث أنك تجد في تلك البلاد الجرداء النائية البعيدة عن كل مظاهر الحضارة والعمران, والتي لا وجود فيها لأيَّ مرفق من مرافق الدولة والقانون, ما عدى وحدات من الدرك متواجدة في النقاط الرئيسية بها وأمّا ما عدى ذلك فلا,! ومع ذلك تجد المواطنين الموريتانيين ومن جميع الفئات والأعراق مُتكافلين بينهم ومتعاضدين (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر... )والمواساة) ولعلَّ أكبر هدف يمكنك تحقيقه هناك وفي ظرف وجيز جدًا هو التعرف على سادة كرام من الطراز الأوَّل مصداقا لقول الشاعر القديم:
تغربْ عن الأوطان في طلب العلى***وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائد
تفرجُ هم واكتساب معيشة***وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإنْ قيل في الأسفار همٌ وغربةٌ***وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خيرٌ له من مقامه***بأرض عدو بين واش وحاسد
ولقد حباني الله جلّ شأنه بالتعرف خلال رحلتي إلى هناك على سادة كرام قلَّ نظيرهمْ, وسما شأوهم عن أن يدركه غيرهمْ, ولقد ذرفت عبراتي مدرارا عند فراقي لهم ولقد سطرت ذلك في قطعة شعرية تحت عنوان: عبرات الجوى, أقول في مطلعها:
بكيتُ وما حُزناً على أنْ جَفتْ دعْدُ***ولا أنْ نأتْ سَلمى ومَية أوْهندُ
ولا أنْ طوَى التاريخُ مهدَ طفولتي***فصار غرابُ البين في غصنه يشدُ
ولا أنْ عفا ربع الأحبة والحمى***فغادره الخلاّن والمجد والسعد
.... إلى آخر القطعة وربما أعود لها في قصاصة أخرى بحول الله وقوته
أمّا ما عدى ذلك من أهداف ومرامي فقلَّ أن يناله أحدٌ في تلك الفيافي المترامية الأطراف والسهول,!! ولقد كنت دقيقا في وصفى لها في عنوان المقال حيث قلت الوهم المتبددْ, ولم أقلْ الحلم المتبددْ, وإن كانت أفصحْ, وربما أبلغْ, وذلك لأنّ الحلم قد يتحقق يوما مّا, أمّا الوهم فلن يتحقق أبداً, وربما ابتسم الحظّ لشخص مَّا فلقيَّ زيد أو عمر في ألف من مثله سانحة جميلة في تلك الربوع القاحلة, لكن ذلك لا يجب أنْ يغري غيره بالمغامرة وراء سراب لن يتحول ذهبا أبدا, ومع هذا كله ومع أن قصة الذهب واكتشافاته وإخفاقاته ومتاهاته ومفارقاته... قد مرَّ عليها أكثر من ستة أشهر فمازال وإلى حدّ كتابة هذه الأسطرْ مغادرين من وإلى هناك, جيئة وإيابا, ولله في خلقه شؤون!! وخلاصة القول أن موضوع الذهب ونوادره وطرفه ومتاهاته وآهاته ومفارقته... حديث ذا شجون فمعينه لا ينضب, ومفارقاته لا تنفد, وربما أعود له في مقالات لاحقة في قابل الأيام بحول الله وقوته. ولتلطيف الأجواء بعد هذه اللوحة القاتمة التي ربما أكون قد عكّرت بها عن غير قصد صفو بعض الإخوة وهو يشدَّ أمتعته بغية الذهاب إلى هناك, فأقول لهم: كان الله في عونكم واعذروني (فما أريكم إلاّ ما أرى) وكما أسلفت للترفيه وتلطيف الأجواء أهديكم هذا النظم الذي سطرت من خلاله رحلتي إلى هناك ذاكرا فيه أسماء رفاقي فيها والنقاط التي مررت بها وقد اخترت له بحر الرجز تسهيلا على القارئ والمتلقي, وهو نظم من ستين بيتا من
بحر الرجز: مُستفعلٌ مستفعلٌ مستفعلُ***مُستفعلٌ مستفعلٌ مستفعلُ
وعنونته بــ: الرحلة الذهبيهْ, إلى الربوع الشماليهْ
الحمدُ لله العليِّ الهادي***إلى سبيل الخير والرشاد
ثم صلاته على الهادي الأمينْ***وآله وصحبه والتابعينْ
هذا وفي الرّحلة نحوَ الذَّهب***أكْثرَ ما ترنو له من عجب
ترى الجميعَ كلهمْ يسيرُ***خلفَ السَّراب ما له نصيرُ!!!
ترى الكبيرَ والصغيرَ والفتىَ***من كل وُجْهةٍ وفجٍّ قدْ أتىَ
وكلهم إلى البرار يَنْبري***كأنه في عُدَّةٍ أوْ عسكر
وزادُهمْ في رِحْلةِ المنافي***كمٌ من الصبر والاعْتساف
شِعارُهمْ فاسْتسْهِلنَّ الصَّبرا***تَنلْ مَرامَكَ بجوفِ الصحرا
وإنَّ في تلكَ البلاد النَّائِيَّهْ***لَعِبْرةٌ لكل نفسٍ واعيهْ
في حُضنِها الخيرُ الوَفيرُ وبها***من الشَّدائدِ الصِّعاب ما بها
وقدْ تكونُ العوْدةُ المرضيهْ***منها بأمنٍ غايةً سَنيَّهْ
وإذ ْمِن الرِّحلةِ لا مناصا***والكلُّ قدْ أمَّلها خلاصا
فغادرَ الكلُّ إليها مرْغما***أوْ راغباً يرجو بها عَرمْرَما
من اليواقيتِ أو الَّلآلي***فاسْبحْ عُبابَ الأمَل الزُّلال
وقادنا نحوَ الشمال سالمُ***وهو لعمري صارمٌ وحازمُ
أكرمْ به من قائدٍ أوَّاب***إلى المُصلَّى غايةَ الإيابي
وهكذا الخِرِّيتُ شيخنا السَّري***فاتْبعه دونَ مَلَلٍ أوْ ضجر
يُبددُ الشُّكوكَ والأوْهاما***وينشرُ الأفراحَ والسَّلاما
ولا رباسُ دونما تقصيري***أكرمْ به من فاضلٍ نحْريري
يُنسيكَ ما بالأهل من أحباب***ومن مرابعَ ومن أصحاب
والحاجُ إنْ تظفرْ به يا صاح***فاشربْ مَعِينَ الجُمل الصِّحاح
يُنسيك ما تلقاهُ من مصائب***ومن مفازاةٍ ومن نوائب
مِزاحُه يُغريكَ بالتصفيق***وإنْ تكنْ في كُرْبةٍ أوْ ضيق
والسالكُ الماهرُ عن فحواهُ***إيَّاكَ أنْ تسأله إلاَّ هو
يُداعبُ الرِّفاقَ والأصحابا***ويصنعُ الصحونَ والأنخابا
والعربِ إنْ تظفرْ به يقيني***فلنْ تُعِرْ طرْفكَ للقرين
وأحمدٍ ذي الخلق الرّفيع***نوِّهْ به من سائقٍ بديع
أكرمْ بهم من رُفقةٍ وإنْ لم***يُحالف الحَظُّ لهم من أمَم
فسارعَ الجميعُ للشمال***والكلُّ يَمخرُ عُبابَ الآلي
حتَّى وصلنا ثالثَ الدَّواسي***فضربوا الخيامَ بالأساس
من خلفه عَساهُ أنْ يَمُنَّا***بما توقَّعَ الجميعُ منَّا
وبعدَ أنْ مضتْ من الليالي***ثلاثةٌ من دونِ ما نَوال
فقرعوا النَّفيرَ نحوَ تالِفهْ***وكمْ بها من تالفٍ وتالفهْ
فضربوا الصَّفحَ إلى المضارب***والحمدُ لله الكريم الواهب
وبعدَ عشْرةٍ مع اثنتين***سِرْنا إلى فصْكٍ بدون ميْن
وإذ هفا بنا الجِهازُ لِندَرَكْ***غُصْنا إلى أعْمقِ حُزنٍ ودَرَكْ
وبعدَ أنْ منَّ الكريمُ الهادي***بالفتح والخلاص والسَّداد
تَوجهَ الجميعُ عنْ يقيني***لِتجريتِ النًّصر والتَّمكين
فعرَّسوا بالجانب الشَّرقيِّ***منها بلا خوْفٍ ولا دَويِّ
وبعدَ ليلةٍ بها أوْ ليْلَتينْ***تَفرَّق الرِّفاقُ نَحوَ وُجْهتينْ
فذهبتْ طائفةٌ لتفرغ***زينه بلا تكبُرٍ أوْ نَزغ
وقادنا الشَّهمُ الفتى الأنصاري***السالمُ الأبيُّ ذو الفخار
وصنوه الظريف في المشاهد***سيد أخي الأخلاق والمحامد
فسارَ من هُناكَ للشِّكْران***حَيث الهنا والفوزَ بالأماني
وبعد بُرهةٍ من المقام***والفوزَ والظفر بالمرام
أناخَ ركبُنا لدى حاميما***عساهُ يقضي وطراً قديما
ومنْ مُفارقاتِ تِلكَ الرِّحْلة***وُجودنا لإبلٍ بربوَة
بها الفتى الأبيُّ عابدينا***أكْرمْ به مروءةً ودينا
فأظهرَ السُّرورَ والتِّرْحابا***وأغْدَقَ الحَليبَ والأكْوابا
وكمْ قتلنا بالشمال أفْعىَ***تَطِيرُ تارةً وطوْراً تَسْعىَ
والسِّبْتَة القصِيَّةُ المديدَهْ***جِئْنا لها من أرْبعٍ بعيدَهْ
فأتْحفتْ بالأمْنِ والأمان***فيا لها من بلدٍ شجاني
بها القطارُ للفلاةِ يفْري***كأنه الليلُ البهيمُ يسْري
وعادَ ركْبنا بلا تواني***لتجريتِ الخير والتَّهاني
قمنا بها زُهاءَ أرْبعينا***يوْماً مُكرَّمينَ آمنينا
ثمتَ أقْفلنا والأفراحُ تفوقْ***أضْعافَ ما كُنا له قدْماً نَتوقْ
قدْ تمَّ ما أردتُّ في ذا المهْيع***دونَ تحاملٍ ولا تصنُّع
ولا تملُّقٍ ولا إجْحاف***والحمدُ لله على الكفاف
ثم صلاته على الحبيب***محمدٍ ذي المِقول المُصيب
وآله وصحبه الأقمار***ما طُلبَ الذَّهبُ بالقفار
كلمات:المصطفى بن امون