اليوم يكتمل شهر على سقوط الطائرة العسكرية الموريتانية الصغيرة(12يوليو2012)، لحظات بعد إقلاعها من مطار نواكشوط (يقال إنها كانت في مهمة "ذهبية" غير قتالية باتجاه الشمال) والتي كان سقوطها نكبة حقيقية ألمت بموريتانيا وطنا وشعبا ومؤسسة عسكرية .
وتقودنا المناسبة الأليمة - بعد الترحم على شهدائنا الذين كانوا على متنها – للحديث عن "كفاءات" الفريق العسكري الفني الذي كلف بالتحقيق في حادثة تحطم الطائرة، والتي أدت إلى استشهاد 7 أشخاص بينهم ضابطان في سلاح الجو ،..ويتضح من تحميل "حجر" المطار و"مدره" و"أحراجه" و"مطباته" المسؤولية عن الحادث (حسب تسريبات أولية عن نتائج التحقيق) مستوى "الكفاءة" العالية للمحققين، لأنه من غير (المعقول) تحميل المسؤولية في حادث جلل حزين كهذا لبشر أو حيوان، ولذلك فالقول بمسؤولية "جمادات" المطار عن الحادثة قول وارد ومنطقي، فالتحقيق في الحادثة ليس أكثر من التحرك في غابة "ألغام مضادة للدروع والبشر" فقد يضع المحقق رجله في نقطة قد يتعذر عليه رفعها منها إلا على "الآلة الحدباء"..!!
والواقع أن المحققين نجحوا في تجميع معطيات مهمة مثل أجزاء من حطام الطائرة المنكوبة، وتحديد المساحة التي سقطت فيها داخل حظيرة المطار(سجل المحققون نقطة ثمينة عندما تأكدوا من أن الطائرة سقطت في الأرض وليس في السماء ولو أنها سقطت في السماء لأصبح التحقيق أمرا شبه مستحيل) والاتجاه الذي سقطت نحوه، والتأكد هل أنها سقطت من السماء باتجاه الأرض أم العكس..!!
واجه المحققون مشكلة تتعلق ب"الصندوق الأسود" للطائرة، حتى أن بعضهم قرر أن الطائرة في الأصل "سوداء" كلها، وبالتالي لا تحتوى على صندوق مميز اللون (هي في الأصل كلها "صندوق أسود" ولذلك لا يمكن أن يكون الصندوق جزء منها)..!!
درس المحققون عدة خيارات منها زيارة المصنع الأصلي ل"جالوط" الطائرة في الصين، أو الاتحاد السوفيتي، أو تايوان(لا يمكن تحديد منشأ الطائرة الأصلي إذ أنها من نوع منقرض من المروحيات العسكرية) أو البحث عن طيار لديه خبرة في نوعيتها(يقال إنها طائرة في الأصل من نوع "دى- سي" أعيد تصنيعها مع جدل بشأن هل أنها كانت مدنية فتمت عسكرتها أم العكس..؟!!)، وفضلوا أن يكون روسيا بعد أن حصل شبه إجماع على أن المروحية يجب أن تكون روسية الصنع حتى وإن (شركت فيها بكيل وأرحب)..!!
واجه الخياران صعوبات جمة، فالمصنع الذي اشتبه فيه المحققون يوجد في جمهورية (مولضافيا) السوفيتية، وأغلب الظن أنه تحول إلى مزرعة لتربية الدواجن، واختفت كل ملامحه التصنيعية العسكرية..!!
أما الطيارون الروس فقد تعذر الاتصال بهم نظرا لانشغالهم مع الفضائيات العربية بتحليل الوضع العسكري في العالم ومآلات الأوضاع في سوريا، وليبيا، ومصر، وإسرائيل، ومنغوشيا..!!
تم استبعاد مثل هذه الخيارات، خاصة وأن موظفا في سفارة روسيا بنواكشوط مر عن طريق الصدفة بالمطار(لم يتسن لنا التأكد من صحة هذه القصة من مصدر مستقل) فشاهد حطام الطائرة ليسقط مغشيا عليه، وبعد استعادته للوعي في المستشفى قال إن "الطائرة تعود لما قبل القرن التاسع عشر"، وأن جده الخامس والعشرين تقريبا مات في حادث تحطم مروحية من نفس الطراز، أيام تجربتها ميدانيا، حسب ما تظهره صور من أرشيف عائلته، وقال إنه "لا يمكن لأحد التعرف على نوعية هذه الطائرة إلا إذا كان فوق المائة والسبعين سنة من العمر تقريبا"، وأردف- وهو يبكى- أن هذا النوع من الطائرات(المنقرضة) كان يستخدم أصلا لنقل الوجبات إلى جرحى الحروب في الخطوط الخلفية للجبهات "الباردة" زمن "الحروب "الباردة"، ولم يكن طيرانا حربيا بالمعنى العسكري، موضحا أن "أي شيء استخدم في غير مهمته الأصلية لابد أن يتحطم"..!!
لم يستسلم المحققون لليأس فقرروا البحث عن "الصندوق الأسود" بعد محاضرات تلقوها ميدانيا عن الفرق بينه وبين "صندوق النقد الدولي" و "صناديق الاقتراع" و"صناديق البريد" و"القرض والادخار" وصناديق (الشهرة) التقليدية..!!
بحثوا في الحطام بين بقايا البطاريات، ومواسير التوصيل، وعلب التوزيع الكهربائي، ومشع الطائرة، ومحركها، و"دمرييرها"، وعلبة اسطواناتها، وأذرع تبديل السرعة، وعمود الكامات، وغير ذلك من القطع "الأثرية" المتفحمة في نقطة تحطم الطائرة..!!
كان على أحد المحققين في الواقع اللجوء إلى "الأسباب الخفية" وهو الذي عنده علم من "سر الحرف" و"مثلث قطرب" و"خاتم سليمان" و"جداول الجن" و"خرائط الأرواح الشريرة" ودواعي استعمال "التمائم" و"الودع"، ولا غضاضة في ذلك، فالمهم الوصول إلى "الصندوق" الموعود بأية طريقة متاحة.. وما لا تعرفه "الهنادس" الحديثة يمكن تتبعه ب"الأسباب الخفية" من "تفتفة" ونحوها..!!
في الواقع لم يكن من السهل اكتشاف الصندوق المفترض أنه "أسود" في ركام متفحم، غير أن مرور قرن كامل أو يزيد على صناعة هذه المروحية أعطى أحد المحققين فكرة سريعة، وهي أنه مادام لون الطائرة قد تغير بالكامل بفعل الأقدمية (وعوامل التعرية) فمن المنطقي أن يصبح لون "الصندوق الأسود" القديم على افتراض وجوده، مجرد لون "أبيض يقق" طاله التغيير كباقي أجزاء الطائرة (الطائرة أيضا وحسب البعض فقدت ذاكرتها فأوامر الهبوط تستقبلها باعتبارها أوامر إقلاع..والاقتراب من مدرج الهبوط تتعامل معه على أنه أمر فني بالابتعاد نحو مطاف الإقلاع وظهرت عليها مؤخرا أعراض "البله المنغولى" حيث أنها لم تستطع مرات عديدة التعرف على الخرائط والبوصلات وأبراج المراقبة وهكذا..!!)
فكرة جنونية حقا نالت استحسان كبير المحققين، الذي اندفع إلى الحطام مرة أخرى لاستخراج قطعة بيضاء تلمع تحت الشمس صارخا بنشوة: "هذا هو الصندوق "الأبيض"، نعم كان صندوقا "أسود" لكن تعاقب الليالي والأيام غير منظره ومظهره..!!
كان لسان حال المحققين المحدقين في الصندوق الأبيض ينشد مع أبى الخطاب: (قفي وانظري "أسماء هل تعرفينه/ أهذا "الصنيديق" الذي كان يذكر؟! لئن كان إياه لقد حال "لونه" سرى الليل يطوى نصه و التهجر)..
بعد العثور على الصندوق "الأبيض"(الذي وخط الشيب رأسه) تنفس المحققون الصعداء، ولم يعد أمامهم سوى تحليل المعطيات التي بداخله، وإيداعها تقريرا ختاميا يبصمونه بأسمائهم وصفاتهم وتواقيعهم ومواقعهم ورتبهم العسكرية والفنية..
كان مع المحققين ("أجنبي" لبيب أذهب جل صوفه التجريب)..بكى بحسرة وهو يرى بقية أعضاء الفريق يتسابقون لفتح الصندوق العجيب، فهذه أول مرة في حياته يعايش تحقيقا خارجا عن المألوف تختلط فيه الأسطورة بالإهمال، والجهل بالتجاهل..!!
أخيرا تم تفكيك ما اعتبره المحققون صندوقا أسود بلون أبيض...تصاعد غبار أرضية المطار، ودخان الطائرة من "الصندوق"، ليختلطا بأوراق "لمليحة" و"تورجه" و"كيتف" وبقايا من أوساخ بكل الألوان والأحجام..!!
لا تسجيلات في هذه القطعة الخرساء (التي لا يمكن الجزم بأنها صندوق من أي نوع) ولا إشارات من أي نوع...ظهرت على بعض قطع الصندوق كتابات رآها البعض "مسمارية" وآخرون ظنوها "هيروغليفية" منقرضة والبعض قال إنها لغة "آرامية" موشاة بأحرف روسية أو يابانية غامضة، وأرقام هندية أكل الصدأ حقيقتها..!!
مهما يكن من أمر - وبالنسبة للمحققين- فإن وجود غبار من أرضية المطار، وأوراق من نباته وأدغاله، يكفى دليلا على أن المطار أرضية ومطبات وأوساخا ونباتات يتحمل (وحده) المسؤولية الكاملة عن الفاجعة التي حصدت أرواح خيرة ضباط سلاح الجو الموريتاني المتدفقين- لحظات قبل استشهادهم- شبابا ونشاطا وقوة وانضباطا وكفاءة وأخلاقا عسكرية ووطنية لافتة..!!
إلى هنا انتهت مهمة "الصندوق الأسود" الناجحة بنظر المحققين الأذكياء، وبانتهائها غابت حقيقة فاجعة هزت الموريتانيين جميعا مدنيين وعسكريين وقد رأوا نيران الإهمال واللامبالاة تأكل فلذات أكبادهم دون أن يملكوا قوة لإيقافها عند حدها (حتى سيارات الإطفاء والحماية المدنية بدت عاجزة عن التحرك بطيئة متكاسلة وكأنها لم تندفع قبل أشهر بسرعة رهيبة وأوامر صارمة وجاهزية لافتة ومياه جارفة لتفريق معتصمين عزل في ساحة "جامع ابن عباس" كانوا يطالبون على ما يبدوا بما لا طمع فيه)..!!
أما الحقائق المطمورة بين ركام الطائرة فهي أكبر من مجرد القول بأن ظروف المطار وحدها كانت سبب الفاجعة...فبين الركام أسئلة ستظل بحاجة لعدة صناديق سود حقيقية سليمة وعالية الكفاءة، لتجيب عنها لماذا تم تغيير طاقم الطائرة في اللحظات الأخيرة لمجرد اعتذار أحد الطيارين اعتذارا لابد أن يوضع تحته خط أحمر مهما كانت مبرراته؟!
لماذا لم تتم الاستجابة لطلبات الطيارين الرائعين الذين طالبوا مرات عديدة بإحالة تلك المروحية إلى التقاعد أو على الأقل صيانتها والتأكد من وضعيتها؟!!
هل تستحق شركات الذهب بعد أن استنزفت ثروتنا أن نمنحها قطع غيار طائراتنا القديمة ومعها أرواح خيرة طيارينا وجنودنا؟
لماذا علينا أن نموت من أجل أجانب نهبوا ثرواتنا وحولوا مؤسساتهم إلى دول قوية داخل دولتنا الضعيفة؟!!
لماذا نخجل من الاعتراف بإهمالنا ومسؤولياتنا المشتركة عن قتل مواطنينا بهذه الطريقة البشعة؟!!
لماذا نترك المسؤولين الحقيقيين عن الحادثة فوق القانون والمساءلة وهم الذين يتموا أطفالا أبرياء وسلبوا أسرا بكاملها حياة أبنائها الذين بهم كانت تقارع عوادي زمن أغبر؟!!
ألا يستحق الشهداء حدادا أو تكريما أو تعويضا أو لمسة وفاء لذكراهم الخالدة وقد ركبوا السحب مرات عديدة صابرين على الظلم والطوى وحتى على رداءة المركوب شكلا ومضمونا دفاعا عن وطن فضلوا أن يحترقوا دفاعا عنه ولتجنيب مواطنيهم محرقة لو أن الطائرة المنكوبة لامست المنازل الملاصقة للمطار لكان لها ما بعدها في تاريخ الكوارث البشرية؟!
لماذا لم تتم إقالة وزير الدفاع وقيادات سلاح الجو والمسؤولين عن سلامة الطيران العسكري ومراقبي الملاحة الجوية في مطار العاصمة؟!
أين برج المراقبة وغرفة التحكم وآخر ما جرى من محادثات بين الطاقم المنكوب وطواقم البرج والتحكم؟!
أين فنيوا الصيانة ومراقبة الجاهزية ولماذا لم يصعدوا إلى الطائرة قبل إقلاعها؟!
أين ملف المراقبة الفنية للطائرة وهل هو موجود أصلا ولماذا لم يكن الطيارون على علم بالخلل الذي يقال إنه لم يكن مفاجئا وكل الوقائع تؤكد إصرار الطيارين دائما على مراقبة سلامة الطائرات وإصلاح الأعطاب التي تلحق بها من حين لآخر؟!
اللهم ارحم شهداء الطائرة، وأخلفهم في أهلهم، وارزقنا جميعا اليقين الذي يجعلنا نطالب بتحقيق أكثر عدلا وإنصافا وتقنية وجدية، يجيب - بصدق وشجاعة- عن هذه التساؤلات وغيرها، انتصارا للحقيقة، وحتى لا يطوى النسيان المسؤولية الحقيقية عن مصير رجالنا البواسل الذين كانوا على متن الطائرة..!!