تبتسم زينه ذات الشهور الخمسة ملء فمها الأدرد، وتغرق في نوبة ضحك صامت عندما تدغدغها أمها حاجه؛ هي لا تعلم شيئا عن المعركة الضروس التي خاضها والداها للمحافظة على أنوثتها كاملة، ربما عندما تكبر قد تـُكبر فيهما هذا المجهود الذي بذلاه على حين غفلة منها، وربما تقرأ لاحقا عن الخفاض الذي مورس ويمارس بشكل كبير في موريتانيا.
الخفاض الذي تعرفه منظمة الصحة العالمية بأنه إزالة جزء من الأعضاء التناسلية للأنثى إزالة كاملة أو جزئية، وذلك لأسباب ثقافية أو دينية أو لغيرها من الأسباب؛ بينما يعرفه بعض الموريتانيين بأنه طهارة المرأة و عنوان عفتها.
قصة الإنقاذتحكي لنا حاجة بنت الحسين ذات العشرين ربيعا قصة إنقاذ ابنتها الأولى من براثن الخفاض قائلة: "بعد أسبوع من ولادة زينه كان هناك حفل العقيقية الذي تنادى له أقاربي وأقارب زوجي بما في ذلك جدة البنت لأبيها وأمي طبعا، لم أكن أتابع ما يدور من أحاديث بين العجائز المتحلقات حولي، غير أنني انتبهت فجأة على حوار فهمت منهم أن هناك أمر يبرم بلغة الاستعارات المكنية، استطعت أن أتبين أنه يتعلق بخطوة ما ستنفذ وعلى الفور في حق الصغيرة، التزمت الصمت في البداية، وبعد قليل أقبلت والدتي لأخذ البنت من أمامي، ترددت قليلا قبل أن اطرح السؤال الحاسم: إلى أين؟ لم يكن يجدر بي طرح السؤال لأنه يعتبر في الظروف التي أنا فيها كثيرا من (متن العين) على رأي إحدى الحاضرات، لكنني كنت مصرة، لم تجب والدتي على سؤالي لذلك اضطررت إلى أن أبرح مكاني وأتتبع خطوات السيدات اللائي خرجن إلى غرفة مجاورة، وفهمت أن الأمر يتعلق بخطوتين ضروريتين، حلق رأس الصغيرة بشيفرة حادة، ومن ثم طهارتها (خفاضها)؛ كان علي أن أمنعهن، ولكنني كنت وحيدة فاتصلت بزوجي وهو صحفي شاب جاء سريعا للوقوف إلى جانبي، وقررنا خوض المعركة ضد والدتي ووالدته وكل نساء القبيلتين وسط دهشة الجميع، فلم يكن في اعتقادهن أن هناك فتاة يمكنها أن تتحدث بهذه الجرأة (أو هذه الوقاحة ربما) أو أن هناك رجل يمكن أن يتدخل في شؤون النساء بهذه الطريقة الفجة.. كنا ندرك أننا نصغر في أعين الحاضرين إلى حد بعيد، لكننا في المقابل لم نكن نريد المساومة على صحة بنتنا التي نعتبر أنفسنا مسؤولين عنها حتى بلوغها. وقد كسبنا معركتنا أخيرا رغم بعض الخسائر الجانبية.
الخفاض بالأرقام
عندما أعلنت الأمم المتحدة عن طريق منظمة الصحة العالمية يوم السادس من فبراير يوما عالميا لمحاربة ختان البنات، إثر المرافعة الجريئة التي تقدمت بها الموديل وعارضة الأزياء الصومالية المشهورة ويريس دايريه بدأ العالم يلقي بعض الأضواء الكاشفة حول هذه الممارسة الشائعة في أغلب الدول الإفريقية، وكذلك بعض المجتمعات الآسيوية ومجتمعات قليلة في أمريكا اللاتينية. وحسب تصنيف منظمة العفو الدولية فإن 130 مليون امرأة حول العالم تعرضن لشكل من أشكال الختان. وتعتبر مصر الأعلى نسبة في العالم تليها اثيوبيا ومالي.
أما في موريتانيا فإن الحديث عن هذه الممارسة ما فتئ يظهر في الواجهة بين الحين والحين قبل أن يحسم القانون الأمر ويحرم الممارسة بشكل قاطع، متوعدا من يقدم عليها بعقوبات رادعة، وقبل سنتين أجرت منظمة (PD) الاسبانية دراسة شاملة في ثماني ولايات هي الأكثر عرضة للممارسة وهي ولايات كيدي ماغه، الحوضين، لعصابه، لبراكنة، غورغول اترارزه وتكانت مهملة ولايات اشمال لانعدام الممارسة فيها تقريبا، ونواكشوط أيضا لأنه لا يشكل منطقة لها خصائصها الاجتماعية، وقد خرجت هذه الدراسة بمعلومة عامة مفادها أن 72% من الموريتانيات تعرضن للخفاض، وتشكل النسبة أكبر حضور لها في المجتمع السونونكي حيت أن 92% من السونونكيات مختونات ، أما البولار فتمثل النسبة 72% ، وفي مجتمع البيظان تبلغ النسبة 70%، فيما تصل النسبة أقل حد لها في المجتمع الوولفي حيث تبلغ 28% فقط.. أكبر الولايات نسبة هي ولاية كيديماغا حيث الغالبية السوننكية، تليها لعصابه، بينما تعتبر ولاية الترارزه الأقل نسبة من بين الولايات التي شملتها الدراسة.
المجتمع المدني:لم يعد هناك ختان بل نساء مختونات
حملنا بعض التساؤلات المتعلق بخفاض البنات إلى السيدة السنيه حيدرا، الناشطة في مجال حقوق المرأة، رئيسة منظمة النساء المربيات وعضو منظمة النساء معيلات الأسر، فقالت لنا إنه لم يعد هناك خفاض حسب رأيها، نظرا إلى الحملات الكثيرة التي قيم بها لمحاربته، وإلى الكم الهائل من المنظمات غير الحكومية التي أخذت على عاتقها مهمة تحسيس وتوعية الأمهات حول مخاطره؛ ولكن المشكلة بنظرها هي في النساء اللاتي يعشن مع الخفاض إذ تقول: " المشكلة أن النساء اللاتي تعرضهن للخفاض يعانين من مشاكل جمة، سواء إثر معاناتهن إبان كل دورة شهرية، أو أثناء الممارسة الجنسية مع أزواجهن، أو خلال الحمل والولادة ففي مختلف هذه المراحل تعاني المرأة المختونة من آلام حادة في أماكن متفرقة من جسدها، وقد أكد الأطباء أن كل تلك الآلام عائدة بالدرجة الأولى إلى عملية الخفاض، وأغلب ما يحدث للمرأة بعد ذلك خصوصا ما يتعلق بآلام الحوض والآلام المصاحبة للبول أو للمارسة هي كلها تداعيات للقطع الذي تعرضت له المرأة أثناء عملية الخفاض مما يجعل اهتمامنا منصبا إلى الوقوف إلى جانبهن والعمل على مواساتهن نفسيا حتى يتجاوزن أزماتهن الذاتية".
الرأي الفقهي: الخفاض مكرمة والرأي الطبي هو الفيصل
نشر الدكتوران نجاشي علي إيراهيم وأحمد محمد كنعان بحثا في الموسوعة الطبية الفقهية حول موقف الفقه من مسألة الخفاض قالا فيه حرفيا: "للبظر دور هام في إحساس المرأة بالنشوة والمتعة عند الجماع، لوجود خلايا حسية، تستجيب للإثارة الجنسية، والمبالغة عند ختان الأنثى في استئصال كامل البظر يقلل ويعدم الشعور بالشهوة تماماً فلا تستطيع المرأة أن تستمتع بحياتها الجنسية، بل يمكن أن تكرهها ولا تطيقها، فتحدث فجوة بينها وبين زوجها، وقد يكون ذلك سبباً في فراقهما وانتهاء حياتهما الزوجية، أو قد يؤدي ذلك إلي انحراف الزوج" وأسسا على ذلك رأيهما الصريح وهو أن "الخفاض الذي يستأصل كامل العضو هو ممارسة مرفوضة طبيا وبالتالي مرفوضة شرعا". هذا بالنسبة للموسوعة الطبية الفقهية أما في موريتانيا فقد سألنا الأستاذ الفقيه حدمين ولد السالك إمام جامع ابن عباس والذي قال إن الرأي الفقهي لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن يكون امتدادا للرأي الطبي، وبما أن الطب قد أكد خطورة الختان على صحة الفتيات وعلى نفسياتهن وعلى آداء المهمة التي خلقهن الله من أجلها من جهة، وبما أنه من جهة أخرى ليس سنة كما هو الحال بالنسبة لختان الرجال وإنما يدخل في باب المكرمات؛ انطلاقا من ذلك فإن الأوْلى في ظروف عصرنا الحالي هو الابتعاد عنه. واختتم ولد السالك حديثه قائلا: "لقد خلق الله الإنسان وكرمه وأي تصرف يؤدي إلى تشويهه كليا أو تشويه جزء منه هو أمر غير محمود البتة وغير مرغوب فيه.
علم الاجتماع: ثلاثة أسباب تنفي علاقة الخفاض بالدين
طلبنا من الخبير الاجتماعي الدكتور سيدي محمد ولد الجيد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة نواكشوط أن يحدثنا عن السياق الاجتماعي الذي أدى إلى انتشار هذه الظاهرة في المجتمع الموريتاني وبعدها الديني. فأكد في البداية أن لا علاقة للأمر بالإسلام وذلك لثلاثة أسباب رئيسة، أولا أنها كانت موجودة قبل الإسلام منذ عهد الفراعنة، ثانيا أنها منتشرة حاليا في مجتمعات وثنية في كينا مثلا التي تعتبر أكبر دولة ممارسة للخفاض، وفيها لا يمثل الإسلام أي نسبة تذكر، أما السبب الثالث والأهم فهو أن الظاهرة منتشرة في بعض مناطق موريتانيا دون البعض الآخر مما يفرغها من المحتوى الديني لأنها لو كانت نابعة من الإسلام والتعاليم الإسلامية لكانت منتشرة على عموم التراب الوطني. فربطها بالإسلام خاطئ.
الأمر إذن ـ يقول ولد الجيد، يتعلق أساسا بأن المجتمع الموريتاني تعود أن يضفي هالة روحية دينية على أغلب ممارساته وذلك على أساس أن هناك نوعا من التماهي بين كل ما هو اجتماعي و ما هو شرعي. لكن الحقيقة الأكيدة هي أن خفاض البنات هو عادة اجتماعية بحته لا علاقة لها بالدين وإنما بسياق اجتماعي متوارث.
ويضيف الدكتور سيدي محمد ولد الجيد أن الوضعية الآنية هي أن أغلب الفتاوي الدينة للعلماء المستنيرين تحرم تحريما باتا هذه الممارسة انطلاقا من الرأي الطبي الصريح في هذا الأمر والذي أكد في كل بحوثه أن الخفاض سبب مباشر لبعض الأمراض الخطيرة كالسيدا والكبد والأمراض المنتقلة جنسيا فضلا عن الزيف الذي قد يؤدي إلى الموت. واختتم الخبير الاجتماعي حديثه قائلا: "ما يمارس من الخفاض الآن، على قلته، يمارس في سياق عادات اجتماعية بحته ناتجة عن تراكم عادات وتقاليد خصوصا في الأوساط غير المتعلمة وتلك التي تستوطن البادية والريف، وهي ممارسات آيلة إلى الزوال شيئا فشيئا.
وللنساء رأي..
توجهنا إلى مجموعة من النساء من أجيال مختلفة لمعرفة آرائهن حول ممارسة خفاض البنات، بادئين بمريم منت لحبيب، 53 سنة، وهي جدة البنت زينه، فقالت إنها اعتبرت منعها من ممارسة حقها الطبيعي في خفاض حفيدتها عقوقا بواحا، ورغم أنها سامحت ابنها وزوجته لاحقا إلا أنها ستظل غصة في حلقها ما حييت. أما سلمها المرأة السبعينية التي أشرفت على خفاض عشرات الفتيات والتي اعتزلت المهنة بعد أن ضعف نظرها، و بعد تحذيرات البعض لها من إمكانية تعرضها للسجن عقابا على ما تفعل، فقد قالت إن الهدف الرئيسي من عملية الخفاض فضلا عن كونها سنة متوارثة عن الرسول وصحابته، أنها تساهم في حشمة الفتاة واتزانها وعدم انجرافها وراء رغباتها الجنسية، وأكدت سلمها أن السبب في انتشار الفواحش في نواكشوط وكثرة اللقطاء هو في تخلينا عن ختان بناتنا. وعبرت المعلمة خديجة بنت اليدالي 30 سنة، عن أسفها كونها لم تختن لأنها ولدت خارج البلاد وتربت خارجها، غير أنني، تقول خديجه، قد عوضت الأمر وقمت بختان بناتي الثلاثة، لا أعرف إذا ما كان الختان سنة أو مندوبا أعرف فقظ أن ممارسته ليست حراما شرعا أما فوائده على رزانة الفتاة واتزانها والحد من شهوتها الزائدة خصوصا قبل الزواج فهي متواترة، على الأقل شخصيا مقتنعة به وسأظل أدافع عنه ولو رزقت بنات أخريات لن أتردد في ختانهن.
الرأي المقابل أيضا كان حاضرا فقد قالت لنا الممثلة عزيزة بنت كابر 25 سنة : "أنا لست مختونة وعندما أرزق ببنت لن تكون مختونة بإذن الله، لأن والدتي كفتني شر هذه المصيبة جزاها الله خيرا ثم إنني لا أحب أن أسبب الألم لأي كان خصوصا فلذة كبدي فضلا عن قناعتي أن الخفاض يقلل أنوثة المرأة ولا أريد لبنتي إلا أن تكون ذات أنوثة مكتملة، ثم إنني أعرف قصصا لفتيات توفين أثناء الممارسة نتيجة لنزيف حاد". أما الصحفية لسالمة بنت الشيخ الولي، 27 سنة، فقد قالت: " لست مختونة لأنني من مجتمع لا يختن بناته وبنتي لم أرد ختانها لأنني أعتبر ختان البنات جناية بل جريمة وأنا خريجة حقوق".
أما أميرة بنت باب 27 سنة، خريجة فلسفة وعلم اجتماع، فقد أكدت أنها لم تكن تتصور إمكانية وجود ممارسات من هذا القبيل في موريتانيا ولا في العالم، وأن أول مرة تسمع فيها عن الخفاض كان قبل ست سنوات من خلال بحث طالعته وأعقبته بنقاش مع بعض زميلاتها، مما اضطرها إلى أن تعيش فترة ليست بالقصيرة وهي تتسائل ما إذا كانت مختونة أم لا، قبل أن تكسر حاجز الخجل وتسأل والدتها بشجاعة، والتي أجابتها بالنفي مما جعلها ترتاح نفسيا وتلقي حملا أثقل كاهلها على حد تعبيرها.
وبعد..زينه، واحدة من آلاف البنات، ولدن في عصر لم يعد لممارسة الختان حضورا كبيرا فيه، اللهم إلا في أذهان الجل القديم، جيل ولد على مبادئ تقليدية وتربى في سياقات اجتماعية لها خصوصياتها، جيل من أبرز سماته أن الأنثى فضيحة تجب مداراتها، تماما كما تجب مداراة كل الفضائح المحتملة التي ربما ترتكبها مستقبلا، ولأن أنوثتها هي مشكلتها ينبغي الحد منها ما أمكن ذلك، وحبذا لو كان الإسلام غطاء لكل ذلك.. كل تلك الأفكار تحاول أن ترى النور في مجتمع محكوم بأفكار جيل جديد يتكئ على العلم ويساعده الطب والفقه الحديث و القانون، جيل لم يعد يرى المرأة عورة ولم يعد يخشى الفضيحة.
الجيل القديم حدد ماضي الخفاض على هذه الربوع، صراع الجيلين يحسم حاضره لصالح الأقوى، أما مستقبله فوحده الجيل الجديد من يقرره.
محمد ولد إدوم / كاتب صحفي