شهد المجال الموريتاني تحولات عميقة منذ بداية السبعينات من القرن الماضي طبعت البنيات الاجتماعية والاقتصادية والمجالية ولا زالت آثارها عالقة إلى وقتنا الحاضر،كانت نتائج لعوامل متعددة أهمها الاستعمار الأجنبي وتأثير الجفاف ودخول البلاد مصاف التمدين بالإضافة إلى السياسة القطاعية التي اتبعتها البلاد بعد الاستقلال حيث اعتمدت على قطاعي المناجم والصيد البحري، وأهملت القطاع الريفي الذي يعتبر الشريان الحقيقي للحياة في تلك الفترة .
إن السياسة القطاعية هذه أدت إلى عدم التوازن بين المجال الريفي والحضري نفسه ، مما اثر بشكل جلي على المجتمع القروي إلي شهد استقرار كبير خلال لـ 30 سنة لأخيرة؛ حيث تناقصت بشكل ملحوظ نسبة الرحل بعد ما كانت تمثل 78% من السكان سنة 1965لتتناقص في إحصائيات 1977 و 1988 و 2000 م إلى 33.2%،12.5% ، 5% على التوالي.
ان التناقص في عداد الرحل تحت تأثير الاستقرار التحضر معا؛ قد تفاقم بفعل الجفاف الذي تعرف البلاد من حين لآخر وهو ما يترجم تحولا عميق في الأنماط المعيشة للسكان وبهذا ازداد عدد المستقرات في الريف الموريتاني،وبشكل عميق في العشرين السنة الأخيرة بحيث انتقل من 2342 قرية خلال الثمانينات إلى أكثر من 6000 قرية في بداية القرن الحالي. هذه الدينامية القروية لم توازيها سياسة تنموية مهيكلة للمجال القروي. ونتيجة للتطور السريع لظاهر التقري ،اثر سنوات الجفاف والسياسة التنموية المتبعة من طرف الدولة وما خلفته من آثار سلبية على الحية الرعوية والزراعية للسكان، ونتج عن ذلك خلل في توازن والتماسك الاجتماعي الذي كان يطبع المجتمع القروي سواء من ناحية الإنتاج أو الاستغلال.وتراجع النشاط الرعوي مما أدى إلى مزيد من استقرار الرحل.وبهذا تطورت ظاهر التقري بوتيرة سريعة وبطريقة غير منتظمة وأصبحت عائقا يبدد جهود الدولة وترهن مستقبل التنمية في ظل عدم وجود إستراتجية شاملة لتنظيمها.
وتعتبر ولاية لعصابة أهم مجال تأثر بهذه الظاهرة،إذ أنها تعتبر مختبرا حقيقيا لدراسة هذه الظاهرة ولا تخرج الأسباب العامة للتقري بهذه الولاية عن الأسباب الأنفة الذكر. بيد أن الوتيرة التي تمت بها كانت أسرع آثارها كانت أعمق إذ شلت التجربة التنموية للدولة بها.
فقد بين إحصاء 2000 م إن نسبة المستقرات مثلت 95.2% من مجموع سكان هذه الولاية الذين كانوا في نهاية الثمانيات عبارة عن رحل تجمعهم المناهل وتفرقهم مساقط الغيث؛ إلا إن وتيرة الاستقرار تسارعت في الآونة الأخيرة إذ ارتفع عدد القرى سنة 1988م من 493 قرية ليتضاعف عددها في اقل من 12 سنة إلى 935قرية.
هذه القرى تنتشر بطريقة غير منتظمة وعلى شكل تكتلات بشرية ترسم خريطة سكانية تجعل من المستحيل أن ترى كل قرية حقها من مشاريع التنمية؛ولا يخف ما لعبته طريق الأمل في استقطاب العديد من القرويين بسبب العزلة التي تعاني منها الولاية.وعزز من ذلك الجهود المحتشمة التي قامت بها الدولة من اجل خلق بعض الخدمات في مناطق دون أخرى. وكذلك التغيرات المناخية بحيث هلك جل المواشي وتراجعت المساحات الزراعية وحتم ذلك علي السكان الالتحاق بالقرى بحثا عن الاستفادة من المساعدات الغذائية التي عملت الدولة على تقديمها لمواطنين تلك القرى.
هذه التحولات التي مست المجال القروي بهذه الولاية ميزت مقاطعة كيفه بتحديد بحالة غير مسبوقة من انتشار الفوضوي للقرى؛وخلق قرى ضعيفة الاندماج وصغيرة الحجم حيث أن نسبة 60% من القرى البالغ عددهم 200 قرية بهذه المقاطعة تقطن بها ساكنة تقل عن 150 نسمة للقرية الواحدة وفي الوقت نفسه تريد كل واحد حظها من الخدمات والتجهيزات الاجتماعية حتى ولو كانت لا تضم سوى اسر قليلة وهو أمر تجاوبت معه الأحكام السياسية السابقة كنوع من ضمان الولاء وكسب الود يوم الرهان، مما ترك أرثا عميق الجذور يحتاج إلى إستراتجية حقيقية تعمل علي تجميع العديد من هذه القرى في تجمع واحد يتم اعتماد معيار كم سكاني معين يكون توفره شرطا لمنح التجهيزات والخدامات العمومية الضرورية.
ويرجع الطور السريع لظاهرة التقري العشوائي بهذه المقاطعة إلى الأسباب التالية:
1- العوامل الطبيعية
لقد عرفت الظروف طبيعية تغيرا كبرا بعد دورات الجفاف المتتالية علي المنطقة التي تسبب في انخفاض التساقطات المطرية وتذبذبها وتزحزح النطاق الرعوي والزراعي بصورة ملحوظة نحو الهوامش الجنوبية بحيث تراجعت المساحات الزراعية وتقهقرت المراعي مساحة وقيمة تاركة أعداد كبيرة من لقطعان أمام هلاك محقق، في الوقت نفسه عرفت جبهة التصحر تقدما سريعا مدمرا الغطاء العشبي والنباتي ومجبرا الرحل علي الاستقرار حول نقاط المياه وجنبات الأودية ومحاور الطرق.
2- العوامل الاقتصادية
أدت التحولات الاقتصادية التي اشتاحت بوادي ولاية لعصابه إلى مزيد من التأزم المجال القروي، خصوصا في المجال الرعوي والزراعي بالإضافة إلى نظم الخطط الاجتماعية التي اعتمدت السياسة المساعدات الموسعة التي يتم تقديمها لتجمعات القروية خلال سنوات الجفاف بدل الاستثمار في الاقتصاد القروي، وعززت بعض التجهيزات ( السدود والآبار) التي حققتها الدولة إلى المزيد من التقري كما أن التغيرات التي وقعت في نظم الإنتاج، وظهور بعض وسائل الإنتاج الجديدة كان له دور كبير في ظهور وتسريع ظاهر الاستقرار.
3- العوامل الاجتماعية
أدت التحولات الاجتماعية الثقافية التي شهدها المجال القروي، والتي لا تخرج عن السياق العام لها على المستوى الوطني، الذي تربطها بها علاقات تأثر وتأثير نتيجة فاعلية المد الحضري، والانفتاح على العالم الخارجي الذي اجتاح الأرياف الموريتانية .إلي مزيد من استقرار الرحل، وانتشار العديد من القرى واعد على ذلك إنشاء العديد من المنشآت التعليمية والصحية والثقافية في المجال القروي التي كان لابد من الاستقرار للاستفادة منها.
4- البعد العقاري
لعب النظام العقاري دورا كبير في ظاهر التقري، فمل تستطيع الدولة الموريتانية في الوقت الحالي أن تتحكم فيه، إذ لا يزال يسود النظام القبلي وكان ذلك نتيجة لتصرف الإدارة الاستعمارية التي عملت علي تقسيم الأراضي على شيوخ العشائر والوجهاء الذين عملوا على نصرتها، مما انعكس سلبا على توزيع الأراضي بصيفه غير متكافئة على المواطنين. وتعتبر مقاطعة كيفه من أكثر المناطق احتضانا لهذه الظاهرة، ويرجع ذلك حسب اعتقادنا إلي تباين النسيج القبلي من حيث حجم النفوذ، فوجود مجموعات قبلية ذات حجم كبير، وأحيانا نافذة وتسيطر على مجالات واسعة إلى جانب مجموعات قبلية صغيرة يعتبر حظها من ذلك ضئيلا ، كان كفيلا بإنتاج مجتمع غير متوازن قبليا، مما انعكس على بشكل طبعي على عدم توازن الملكية العقارية للأرض فظلت لكل قبلية حوزتها الترابية - تكون ملكا جماعيا في حالة المراعي والسدود، وتكون ملكا خصوصيا في حالة الاستغلاليات المجهرية- .ولا يمكن لغير أفرادها أن يستغلها وكيرا ما احتدمت الصراعات والنزاعات القبلية بشان ملكية الأراضي وحتى ترسيم حدودها وحتى داخل القبلة الواحدة.
5- محاور الطرق
لقد كان استيطان البدو بأعداد مهمة بمحاذاة محاور الطرق ظاهرة جديدة ومتسارعة ؛ ولم تمنع أحيانا ندرة المياه الصالحة للشرب بل انعدامها أحيانا في بعض الأماكن، من استقرار هؤلاء السكان حول تلك المحاور معتمدين على جلب المياه من مناطق بعيدة.
وتتجلى هذه الظاهرة في انتشار العديد من القرى ذات الأحجام المختلفة، إلا أنها تشترك في الوضعية المتردية التي تعيشها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي والمتمثلة في انخفاض مستوى التنمية البشرية به مقارنة بالوسط الحضري،وكذلك ضعف البنيات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية إذ أن ما يقارب 80% من القرى تعاني العزلة والتهميش بسبب غياب التجهيزات الأساسية مما يزيد من استفحال ظاهرتي الأمية والفقر.
وتتوزع هذه القرى بهذه المقاطعة توزيعا غير منتظم، وسنبين في الجدول التالي ذلك:
البلديات عدد التجمعات أكثر من 1000 نسمة من 750الى 999 نسمة من 500 إلى 749 نسمة من 300 إلى 499 نسمة من 100 إلى 299 نسمة من 0 إلى 99 نسمة
اغورط 40 4 1 2 4 13 16
لكران 61 1 0 0 5 26 29
الملكه 52 0 1 1 12 23 15
نواملين 18 0 0 1 3 6 8
كورجل 18 0 0 1 2 8 7
لقد تركت ظاهرة التقري بمقاطعة كيفه أرثا عميق الجذور عمل على تبديد الجهول التنموية للدولة.
تحتاج هذه الظاهرة إلى إستراتجية حقيقية تعمل علي تجميع العديد من هذه القرى في تجمع واحد يتم اعتماد معيار كم سكاني معين يكون توفره شرطا لمنح التجهيزات والخدامات العمومية الضرورية.
الدكتور محمد محمود ولد المصطفى
باحث في قضايا التنمية الترابية