حتى عهد قريب كانت موريتانيا بعيدا كل البعد عن دائرة الصراع الشيعي/ السني الطاغي منذ عقود على العلاقات العربية الإيرانية ما بعد انتصار الثورة الإسلامية بقيادة زعيمها الروحي آية الله الخميني يرحمه الله. ولم يكن عموم الموريتانيين يهتمون بهذا الموضوع أو يعلمون عنه الشيء الكثير؛ باستثناء ما تتناقله وسائل الإعلام من أخبار التوترات الروتينية في علاقات إيران مع بعض الأنظمة العربية تحت عنوان محاولات طهران نشر مذهبها الشيعي في بلاد العرب والذي اتخذته عدة حكومات ذريعة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران، دون أن يصاحب ذلك الحديث القلق من النوايا الإيرانية أي حديث إيراني مواز عن مخاطر الغزو "السني"، أو عن محاولات أي من الدول العربية نشر هذا المذهب أو تصديره إلى بلاد فارس أو غيرها من بلاد العالم!! وقد بدأ منذ شهور حديث متواتر في الإعلام الموريتاني عن مد شيعي زاحف نحو "بلاد المرابطين"، وعن تشيع عشرات الآلاف من المواطنين، ونسب لمن وصف بزعيم الطائفة الشيعية الموريتانية المدعو بكار ولد بكار تقديره لعدد المتشيعين الموريتانيين بنحو 45000 شخص يتطلعون إلى فتح "حسينيات" و"حوزات علمية" خاصة لممارسة طقوسهم المذهبية داخلها وفق المرجعية السستانية التي يتبنونها..!! هذا الحديث المتصاعد عن تنامي المد الشيعي في البلاد بدأ مباشرة مع مساعي الانفتاح السياسي بين نواكشوط وطهران والذي انتهى إلى تطبيع العلاقات بين البلدين من خلال تبادل التمثيل الدبلوماسي وتوقيع عدد من اتفاقيات التعاون الاقتصادي؛ فضلا عن ما وصف بتخندق موريتانيا في خانة ما كان يعرف بمحور الممانعة (سوريا، ليبيا، قطر، موريتانيا، إيران..). غير أن الخبير الواقعي بشؤون المجتمع الموريتاني لا بد أن يجد صعوبة بالغة في فهم وتكييف سيل الأحاديث المتلاحقة عن اختراق شيعي لهذا المجتمع، كما لا بد أن يضع أكثر من علامة استفهام حول الأرقام المتداولة بشأن عدد المتشيعين الموريتانيين وسر تسترهم على معتقدهم "الجديد" في بلد يكاد "يبيح" لكل أحد حتى "الحق" في الردة والزندقة دون أن يعترض عليه أحد أو تضايقه سلطة أو قانون!! إننا لا نستطيع أخذ شيء من هذه الأرقام على محمل الجد؛ حيث لا نجد في الواقع الموضوعي ما يحفزنا على ذلك؛ إلا أن واقع حملات التخويف، والتخوين.. والتبشير أيضا؛ تدفعنا كلها للبحث عن ما وراء عناوين هذه القضية من خلفيات وأغراض وحقائق غير معلنة وغير جديدة في ما نعتقد. حيرة المستمعين!! إن كل صراع مهما كان يفترض على الأقل طرفين متصارعين على موضوع، والصراع السني/ الشيعي يقوم على فرضية أن ثمة فهمين أو اجتهادين مختلفين داخل حقل التفكير الإسلامي بين المذهبين؛ حيث يعمل كل مذهب على تقديم نفسه باعتباره المذهب الصحيح؛ محاولا نقض المذهب الآخر وكشف أخطائه أو "مغالطاته" كي يقصيه ويقضي عليه.. غير أن واقع الحال يكاد يكشف أن ما يثور من خلاف بين سنة العرب وشيعة إيران؛ هو خلاف لا علاقة له البتة بالتشيع ولا ب"التسنن"! بقدر ما هو صراع سياسي على خدمة أو هدم مصالح دولية كبرى لا صلة لها بالعرب أو المسلمين، ولا بالشيعة ولا الإيرانيين؛ إلا أن تكون علاقة تبعية فرضتها أهداف وأطماع ومخططات قوى دولية طاغية وباغية!! إن كثيرا من المواطنين العرب السنيين ما زال محتارا في فهم أسباب المخاوف الحقيقية التي لا تمل بعض المؤسسات العربية الرسمية وشبه الرسمية من ترويجها والترويع منها حول مخاطر التشيع والمساعي الإيرانية لنشره.. ومصدر حيرة هؤلاء المواطنين أمران رئيسان: – أما الأول فيتعلق بسبب وجود مخاوف لدى السنة من انتشار المذهب الشيعي في بلادهم، مقابل اختفاء مثل هذه المخاوف لدى الشيعة من انتشار المذهب السني في أمصارهم؛ رغم وجود دولة واحدة معنية بنشر التشيع داخل محيط كبير من الدول المفروض أن تكون مهتمة بنشر المذهب السني مع امتلاكها ناصية لغة الإسلام وأسبقية الدخول فيه، ناهيك عما تزخر به من جهابذة العلم والفكر، وما تحت أقدام قادتها من ثورات وأموال وخيرات مغرية!! – وأما الأمر الثاني فيرتبط بما يتضمنه التخويف من التشيع من ربطه بعقائد غبية ومتخلفة لا يمكن أن تقنع من تربى في أحضان الإسلام الصحيح والسنة المطهرة غير المزورة ولا المحرفة؛ حيث يتحدث مناهضو التشيع عن استخفاف الشيعة ببعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وعن بهتهم لأم المؤمنين رضي عنها بما يصم سماعُه آذانَ كل المؤمنين، بل وحتى عن تأليه الإمام علي رضي الله عنه، وعن أن جبريل عليه السلام "ضل" طريقه عندما بلغ الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدل المستهدف بها أصلا علي بن أبي طالب (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا)… إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة المنسوبة لبعض غلاة الشيعة (وليس لكل الشيعة)، والتي لا تصلح إلا للتأكيد على أن معتنقيها لا يصلحون لتشكيل أبسط خطر على عقيدة أضعف السنيين إيمانا وأقلهم علما ومعرفة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم!! ومع ذلك فإن تحذير سنة العرب من إيران له أسبابه ودوافعه المستورة وغير المنكورة.. التشيع مشكلة دولية بتوقيع عربي!! نحن نعتقد جازمين أن المخاوف العربية من انتشار المذهب الشيعي في بلداننا هي مخاوف مفتعلة تخفي وراءها مخاوف منظومة فكرية وسياسية تقليدية سائدة منذ عهود (وقائمة على التحالف غير المتكافئ مع الامبريالية الأمريكية حماية لمصالح هذه الامبريالية) من منظومة أخرى تشكلت في إيران بعد انتصار ثورتها وتأسست على تناقض حتمي مع المصالح الامبريالية والاستعمارية في المنطقة، من خلال تبني الثورة الإيرانية لسياسات ومبادئ تقوم على رفض الهيمنة الغربية، وعدم القبول بواقع الاحتلال الصهيوني ودعم القوى المقاومة له، وبناء نمط ديموقراطي ثوري يحقق التداول على السلطة سلميا وديموقراطيا، ويعمل حثيثا على بناء أسس القوة الذاتية عسكريا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا؛ بعيدا عن الإملاءات الخارجية والخضوع لها.. وكل هذه مبادئ وأسس مناقضة تماما لما هو سائد في بلداننا رغم ملامستها العميقة لتطلعات شعوبنا؛ إلا أنها محرمة بقرار دولي أمريكي على حكامنا الذين لم يجدوا ما يخفونا منه في الثورة الإيرانية الفريدة غير تشيعها الذي لا يعنينا في شيء؛ تماما كما لا يعني حكامنا في شيء أن يفتحوا في كل مدينة من مدننا سفارة أو قنصلية غربية أو صهيونية دون أن يخافوا علينا مخاطر التهويد أو التبشير أو التغريب؛ وإن كانت زيارة مسؤول إيراني واحد لأحد بلداننا تكفي لتقام الدنيا ولا تقعد حتى يغلق المنفذ الموهوم للتشيع الذي يحمله ذلك المسؤول الإيراني في جيبه أو عقله الساحر!! حدثوا الناس بما يعرفون.. وليس فقط بما تعلمون!! قد يقول متقولون رسميون إنني لا أعرف عن التشيع إلا القليل؛ وإن خطره أكبر مما أرى وأتصور لو علمت من أمره ما يعلمون، وإني لأقبل أنهم في ذلك لصادقون؛ لكن تلك حجة عليهم وليست لهم؛ لأن الناس إنما يحكمون بما يعلمون؛ وقد علم عامة شعوبنا من أمر الشيعة الإيرانيين الشيء القليل؛ لكنه لو تعلمون كبير وخطير: – لقد علموا أنهم أنجزوا ثورة شعبية منذ سبعينيات القرن الماضي امتلكوا بفضلها زمام أمرهم؛ وانتهجوا على هديها نظاما ديموقراطيا فتداولوا سلطتهم سلميا بواسطة الانتخابات.. ولم تعرف بلداننا السنية شيئا من ذلكم!! – ولقد تبنت الثورة الإيرانية قضايا الشعوب المستعمرة والمستضعفة، ودعمت المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وأسست "حزب الله اللبناني" الذي استطاع في أيام أن يهزم دولة "إسرائيل" التي هزمت جميع جيوشنا في سبع حروب متواليات، وأرغمت أكبر دولنا على وضع يديها باستسلام في أغلال "كامب ديفيد" التي مازالت تذلنا وتذلها إلى يوم الناس هذا.. – واستطاعت إيران الثورة أن تبني لنفسها وشعبها أسباب القوة رغم فيتو الغرب وإسرائيل؛ حتى دخلت النادي النووي؛ بينما لا يستطيع أحد من قادتنا أن يفكر (مجرد التفكير) في إقامة مصنع لإنتاج بنادق الصيد دون أن يدخل فورا إلى غرفة العناية المركزة!! و.. وغيره ليس بالكثير، ولكنه خطير وكبير.. فتلك هي "مقبلات" المذهب الشيعي التي تفتح له شهية المواطن العربي المسحوق والمغلوب والمحزون… فيا أيها المحذرون من المخاطر الحقيقية أو الموهومة للتشيع الإيراني! إن مشكلتكم أنكم تصرون على التحدث للناس عما تعرفون؛ وترفضون التحدث إليهم عما يعلمون!! إننا لا ننكر أن الاختلاف بين المذهبين السني والشيعي قد يمس أسس العقيدة الإسلامية الصحيحة في بعض جوانبه؛ لكننا نعلم أنه لا مفر من الإجابة على جملة من التساؤلات المحيرة قبل أي حديث عن مخاطر التشيع في "بلدان السنة" إن صح التعبير: 1 – إذا كان فتح سفارة إيرانية في إحدى دولنا كافيا لتشيعها وتهديد عقيدة سكانها، فماذا يكون أثر فتح عشرين سفارة لنا في إيران على الشيعة والمتشيعين فيها؟ 2 – إذا كان المال الإيراني الفاضل عن متطلبات البرنامج النووي ودعم حزب الله والمقاومة اللبنانية.. كافيا لشراء فقرائنا، وتغيير عقيدتهم، وضمان تشيعهم.. أفلا تكون أموالنا الفاضلة عن إشباع شهوات مترفينا، وعن تمويل حروب الولايات المتحدة عبر العالم.. كافية لتحصين فقرائنا؛ بل وتحريرهم من ربقة التشيع الحقيقي أو الموهوم؟؟ إنه خطر واهم.. وإنها الحرب بالوكالة التي خضناها على العراق في عهد الشهيد صدام حسين رغم أنه لم يكن شيعيا ولا مبشرا بالمذهب الشيعي أو ناشرا له.. وسنشهدها قريبا ضد مصر بعد اكتمال انتصار ثورتها، كما شهدناها من قبل على عهد الزعيم الرحيل جمال عبد الناصر… إذن؛ لقد سمحت موريتانيا لإيران بفتح سفارة لها بنواكشوط؛ فكان لا بد أن يزج بها تبعا لذلك في دائرة الحرب الوهمية على الشيعة والتشيع، رغم أنه ليس في موريتانيا شيعة ولا متشيعون، وإن كان فيها جواسيس ومنافقون ومرتدون.. لكنهم جميعا للغرب يعملون؛ فلا يقوم سبب للتخويف منهم أو التهويل من شأنهم.. لأن هذا هو السياق الدولي الامبريالي الذي اختارت أغلب حكوماتنا السير على نهجه، واختارت إيران السير عكس تياره الجارف.. حتى تغرق، أو تنتصر… محفوظ الحنفي