إن الشعوب لا تصبر على القهر طويلا، بل لا بد من أن يأتي يوم تنهض فيه، وتطالب بحقوقها بألسنتها وأيديها، لتعيد إليها والى أجيال الآتية الحرية المسلوبة، مهما كلف الأمر حتى لو وصل الى الأرواح والأحبة.
فعلي رأي الزميل عبيد ولد اميجين "...فإذا كانت السلطات الحاكمة هي التي أسهمت في ترسيخ سلطة قوى الإقطاع وتغذية شرايينه التقليدية عن طريق التغاضي عن سطوة الارستقراطيات القبلية على الأتباع، فإن هذه المشيخات بالضرورة، دأبت على ابتلاع سلطة الدولة ضمن المجالات الجوهرية، السياسي منها والاجتماعي، نعني أن القوى المسئولة تاريخيا وروحيا عن "العبودية" وعن مداعبة "العنصرية" هي التي تدير اليوم كل شيء، السلطة، والثروة، المساواة و الحرية؛ وهو ما يعيق تطور الأوضاع باتجاه مزيد التمكين لشرائح المجتمع الأقل حظا كـ"لحراطين"، ويمنع من التمتع بالحق الأصيل في الحرية التامة والمساواة العامة، بين المواطنين".
ومصداقا لقوله تعالي: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ".
لاشك ان "الحراطين" اليوم أكثر من أي وقت مضي أدركوا أنهم الأغلبية المهمشة التي استلمت لواقعها قديما، نتيجة ما أفهمت من الدين الإسلامي، والذي أريد لهم أن لا يعرفوا منه سوي ما يجعلهم عبدة لأسيادهم رجاء لرحمة من عند رب تجلت لهم قدرته أكثر من أسيادهم.
وكانت جنات الخلد ونعيمها وحياة الحرية المستمرة في دار الأخيرة، مقرونة لديهم بخدمة "البيظان"، الذين هم شعب الله المختار، وخليفته علي المنكب البرزخي.
ترك "لحراطين" أو علي الأصح العبيد، الصلاة، والصوم، والزكاة، والزواج، ليؤديها نيابة عنهم أسيادهم، مقابل تفانيهم في الخدمة، ولم لا، فلا يمكن لأي عبد العيش بسلام وسيده غاضب عليه، "فلعنة الله ستحل به عاجلا أو آجلا".
وفي مثل هذه الظروف وأكثر عاشت شريحة عظيمة من أبناء هذا الوطن محرومة من حريتها، بالرغم من إسهاماتها الجلية علي كافة الأصعدة، قبل ومع إنشاء الدولة الموريتانية، كانت السقاية والرفادة منهم.
وظل "لحراطين" طورا من الزمن تحت رحمة من لا يرحم، وكانوا جزءا من متاع السيد، كما كانوا فدية عن أطفال الأسياد.
ومع عودة الجيل الأول من أطفال العبيد من المدارس الاستعمارية، والتي دخلوها بدلا عن أبناء الأسياد، وما حملوه من وعي لدي المجتمعات الأوروبية التي مازالت حديثة العهد بعصر الأنوار، كما حدث مع أبناء المستعمرات بعد عودتهم من الحرب العالمية الأولي، حيث كانوا النواة الأولي لحركات التحرر في بلدانهم.
بدأ إذا أطفال العبيد العائدين من المدارس الفرنسية، يقارنون واقع شريحتهم مع بقية مكونات المجتمع الموريتاني، التي لا يختلفون عنها في مقومات الحياة، فحدثت انتفاضات كانت أشهرها ما عرف أصحابها "بجامبور" وانتفاضة الحر، إضافة الي ظهور تيارات حقوقية كان أبرزها "نجدة العبيد".
ومع التحولات المذهلة التي عرفتها الدولة الموريتانية، وما عرف اصطلاحا بالديمقراطية، بدأ النضال "الحرطاني" ينحصر، وبقي داخل الصالونات.
كما استطاعت الأنظمة الموريتانية احتواء قيادات "لحراطين"، إلا القليل منهم، والذين دخلوا فيما بعد في مشروع الدولة "البيظانية".
ولأن الحياة مستمرة، والقضايا العادلة تخلق قيادات جديدة تعلن عن نفسها، ظهرت مع مطلع القرن الواحد والعشرين "حركة انبعاث الانعتاق"، ذات طرح راديكالي، تستمد مشروعيتها من آهات شريحة "لحراطين" التي لم ولن تنحصر، بالرغم من مرور مئات السنين، وانتقال المجتمع الموريتاني من حياة البادية الي حياة المدينة.
كان هذا التيار بزعامة بيرام ولد الداه ولد اعبيد، شاب طموح يعي ما يريد، مستفيدا من عثرات أسلافه، متبنيا خطابا واقعيا ونخبويا، واعتمد في مشروعه النضالي الذي لم يكن إقصائي، علي الشباب من مختلف أطياف المجتمع الموريتاني، بعد أن نظر لمشروعه، متجاوزا بذلك مرحلة الخطاب.
كان ولد اعبيد مصدر إزعاج للنظام الإقطاعي الموريتاني، بعد أن لمس فيه خطي "مالكوم اكس" و"نيلسون مانديلا" و"المهاتما غاندي" وغيرهم من العظماء الذين حرروا شعوبهم دون إراقة دماء.
ولأن قضية "لحراطين" مسألة تستحق الإنصاف، وكان ينبغي أن لا تكون من المسائل المثارة في قرن التطور الإنساني، إلا أن الإرادة الرسمية الموجهة في طريق بقائهم علي ما هم عليه جعلتنا وكأننا في بداية ظهور القضية.
لا بد من حتمية تبوأ "الحراطين" مكانتهم اللائقة شئنا أم أبينا، مما يحتم علينا الابتعاد عن الخطابات النرجسية، والنظرة المتعالية التي لا تسند علي موروث ثقافي ولا حتى تاريخي، باستثناء أكاذيب سطرنا بأيدنا ثم صدقناها.
علي المجتمع "البيظاني" ان يدرك حجم خطورة القضية، ودقة المرحلة، وان يتعلم من التجربتين الجنوب افريقية والدافورية، وان يترك الأمور تأخذ طريقها بسلاسة وسلمية، بعيدا عن الأكاذيب التي يروج أصحابها أن الساعين الي تحرر عبيد موريتانيا تقف وراؤهم جهات مشبوهة، متغاضين عن الحقيقة الماثلة في الشارع والمدرسة والمسكن وغيرها.
وعلي هؤلاء ان يدركوا قبل غيرهم ان التشكيك والتنابز علي الطريقة "الكيجبية" لم تعد ناجعة في كبح جماح المناضلين عن طريقهم، وان ينخرطوا بدل من ذلك في معركة التحرر سبيلا الي غد مشرق لأجيالنا القادمة، لا مكان فيه للعبودية، وتتحد مكانة الفرد فيه من خلال إنتاجه.