مرة أخرى تسقط طائرة عسكرية، ومرة أخرى تكون ردود الأفعال هي نفسها: إذاعة رسمية تستمر في سخافاتها، وتلفزيون رسمي يواصل غيه، ووكالة رسمية ترسم كلمات بائسة على صفحتها الرئيسية، وغياب رسمي وشبه رسمي عن صلاة الجنازة، وتقصير لافت من النخب، وتفاعل دون المستوى من الصحافة المستقلة. إنها نفس ردود الأفعال تتكرر دائما مع كل فاجعة، ومع كل طائرة تسقط، وكم من طائرة سقطت وكأن شيئا لم يحدث. ففي العام 1981 سقطـت طائرة المقدم ولد بوسيف والوفد المرافق له في عمق المحيط قبالة العاصمة السنغالية دكار، وفي الثمانينات سقطت أيضا طائرة أخرى وتوفي من كان فيها. وفي عام 1992 اختفت طائرة والي داخلة انواذيبو، وفي عام 1994 سقطت طائرة تجكجة وكانت هذه المرة مدنية. وفي العام 2005 سقطت طائرة كانت تحمل فرقة الموسيقى العسكرية، وفي العام 2011 سقطت طائرة عسكرية في شنقيط، وبالأمس سقطت طائرة عسكرية واشتعلت فيها النيران وكان على متنها سبعة موريتانيين (3 من الجيش، 2 من الجمارك، 2 عمال مدنيين). سقطت طائرة عسكرية بالأمس، وكانت الردود هي نفسها، صادمة في مجملها، مؤلمة بكل تفاصيلها، ومقلقة على مستقبل بلد لا يتغير أبدا، ولا يعرف كيف يقدر أبناءه وهم أحياء يؤدون واجبهم الوطني، ولا يعرف كيف يقدرهم إذا ما رحلوا أثناء تأديتهم لذلك الواجب. فكم هو مؤلم أن تعيش موريتانياً، وكم هو مؤلم أن تموت وأنت لا زلت موريتانياً. فموريتانيا الرسمية وشبه الرسمية رفضت ـ وذلك من طبعها ـ أن تعيش لحظة حزن تتناسب مع ما حجم فاجعة الأمس، ويتجلى ذلك الرفض من خلال جملة من الملاحظات أوردها في النقاط التالية: 1 ـ أن تسقط طائرة عسكرية في الصباح الباكر، وعلى مسافة قريبة من المطار الرئيسي، وتظل تشتعل والناس تتفرج دون أن تصلها سيارة الإطفاء من المطار المجاور إلا بعد فوات الأوان، فذلك يعني أن هناك خللا كبيرا في إجراءات الأمان والإنقاذ. والغريب أن سيارات الإطفاء كانت جاهزة عندما تعلق الأمر بتفريق اعتصام المعارضة في الثلث الأخير من الليل. فسيارات الإطفاء تتحرك بحماس عندما يتعلق الأمر بتفريق المتظاهرين، و تتحرك ببطء مريب عندما يتعلق الأمر بإنقاذ أرواح مواطنين كانت أجسادهم تحترق داخل هيكل طائرة تحترق سقطت بجوار المطار وكأنها لا تريد أن تشق على الحماية المدنية، ولا تريد لسيارات الإطفاء أن تتحرك لمسافات طويلة. طائرة سقطت في أفضل مكان يمكن أن تحصل فيه على الخدمة المفترضة للحماية المدنية، فلم تسقط داخل حي شعبي فتتعقد مهمة الحماية المدنية، وإنما سقطت قريبا من سيارة الإطفاء الجاثمة في المطار، ومع ذلك فقد فشلت الحماية المدنية في أن تقدم لها أبسط خدمة إنقاذ. إن التأمل في المشهدين : مشهد سيارة إطفاء تسير بحماس في ثلث الليل الأخير لتفريق المتظاهرين، ومشهد سيارة إطفاء أخرى تتحرك في الصباح الباكر وببطء شديد، لإنقاذ أرواح بشرية ليوصلنا للاستنتاج التالي: وسائل الدولة وإمكانياتها تكون جاهزة وعلى أتم الاستعداد إذا ما كانت ستستخدم لإذلال المواطنين ولإخافتهم، ولكن تلك الوسائل نفسها تتعطل إذا ما تعلق الأمر بإنقاذ مواطنين أبرياء. 2 ـ لم تهتم وسائل الإعلام الرسمي بالفاجعة، فالتلفزة واصلت برنامجها الغنائي، والإذاعة واصلت سخافاتها، وموقع الوكالة لم يكتب عن الفاجعة إلا في حدود الرابعة والنصف وليته تجاهلها ولم يكتب عنها. لقد كتب الموقع الرسمي البائس للوكالة الموريتانية للإنباء أربعة أسطر عن صلاة الجنازة التي تم تنظيمها على أرواح الضحايا . وقد كتبت الوكالة عن الخبر ضمن تغطيتها لأخبار المجتمع، واختارت له عنوانا صادما : "الصلاة على موتى الطائرة المتحطمة". لم يجد أهل الوكالة عبارة أخرى أقل استفزاز لأسر الضحايا وللشعب الموريتاني يبدلونها بتلك العبارة الصادمة. والحقيقة أنه لا غرابة في ذلك، فالعاملون في مؤسسات الإعلام الرسمي لا يبدعون إلا إذا تعلق الأمر بتغطية مبادرات التأييد والمساندة، أو عند الإعلان عن انسحابات من المعارضة إلى الأغلبية، أو أثناء تغطية أنشطة حكومية وهمية. والمصيبة أن هؤلاء قد فاتهم بأنهم يتقاضون رواتبهم من الضرائب التي يدفعها الشعب الموريتاني، والذي لم يحترموا مشاعره حتى أثناء حدوث الكوارث. والغريب أنهم يتظاهرون دائما وكأنهم ضحايا، ولا يتورعون عن المطالبة بزيادة 60% . ومن المبكي المبكي، أن الوكالة التي بخلت بخمسة أسطر لتغطية صلاة الجنازة التي تم تنظيمها في مسجد ابن عباس، قد خصصت عشرين سطرا لطاولة مستديرة حول طرق تفعيل شعبة الصمغ العربي في موريتانيا. 3 ـ قاطع أعضاء الحكومة والقيادات العسكرية صلاة الجنازة التي أقيمت في مسجد ابن عباس، رغم أن المسجد يتوسط أغلب المباني التي يوجد فيها أولئك الذين كان من المفترض بهم أن يحضروا لصلاة الجنازة كحد أدنى للتعبير عن مواساتهم. أمتار معدودة تفصل بين المسجد والوزارة الأولى وقيادة الأركان ومع ذلك فلم يحضر الوزير الأول ولا أي وزير آخر، ولم يحضر قائد الأركان، ولا أي قائد أركان آخر. والمؤلم أني منذ يومين كنت أتابع قناة شنقيط وشاهدت وزير المالية ووزير الإسكان في حفل في قرية صغيرة يستمعون لبعض بيانات التأييد والمساندة للرئيس محمد ولد عبد العزيز. فأن يترك وزير عمله ويسافر إلى قرية نائية لمجرد الاستماع إلى بيان مساندة في الوقت الذي يتغيب فيه ذلك الوزير عن حضور صلاة الجنازة على أرواح سبعة موريتانيين استشهدوا أثناء تأديتهم لواجبهم الوطني، وعلى بعد أمتار معدودة من مكتبه، فذلك قد يبين لكم كم هو مؤلم أن تموت من أجل بلد كموريتانيا، وكم هو عظيم أن تعيش حياتك وأنت تصفق للنظام الحاكم. 4 ـ قد يكون غريبا أن تتولى طائرة عسكرية نقل الذهب لصالح شركة أجنبية، ولعل ذلك من الأمور التي يلزم أن يشملها التحقيق الموعود، ولكن وحتى وإن قبلنا بأن يتحول الجيش إلى ناقل خاص لصالح شركة أجنبية، فإن الذي لا يمكننا قبوله هو أن لا ينعكس ذلك إيجابيا على الطائرة العسكرية التي كانت تقوم بمهمة نقل منتجات الشركة الأجنبية. أن تتحول طائرة عسكرية إلى طائرة لنقل إنتاج شركة أجنبية فإن ذلك كان من اللازم أن يصاحبه ـ على الأقل ـ توفير الصيانة اللازمة للطائرة، خاصة أن هذه الشركة معروفة باستنزاف ثرواتنا من خلال عقود ظالمة. والشركة لم تبخل فقط بتوفير موارد مالية لصيانة الطائرة العسكرية المتهالكة التي كانت تستخدمها لنقل منتجاتها، بل إنها بخلت حتى ببلاغ تعزية لأسر عمالها الذين كانوا يتواجدون في الطائرة. هذا إذا قبلنا منها أن تتجاهل الضباط والجنود الذين استشهدوا أثناء تأدية مهمة نقل منتجات تلك الشركة. ورغم ذلك كله فإنه لا يحق لنا أن نلوم شركة أجنبية لأنها لم تقم بواجب العزاء والمواساة، ولا يحق لنا أن نطلب منها ذلك ما دمنا نحن أنفسنا قد بخلنا بعزاء يتناسب مع هول الفاجعة. 5 ـ تصادفت الفاجعة مع الجلسة الختامية للدورة البرلمانية، ومع ذلك بخل النواب ببيان تعزية، أو بكلمة مواساة في خطاب الاختتام، أو حتى بدقيقة حزن، أو بقراءة سورة الفاتحة. 6 ـ ثمن البعض بيانات التعزية التي جاءت من الأحزاب السياسية، والتي كان آخرها بيان الاتحاد من أجل الجمهورية ، والذي تأخر كثيرا حتى اعتقد البعض بأنه لا يفكر في إصدار بيان رغم أن هذا الحزب كان قد أزعجنا في وقت سابق بالقول بأنه كان أول حزب تقدم ببيان تنديد بمناسبة حرق الكتب الفقهية. لقد كان على الأحزاب سواء في المعارضة أو الأغلبية أن تكون ردود أفعالها تتناسب مع حجم الفاجعة، وكان على قادتها أن يحضروا لصلاة الجنازة، وكان عليهم أن يطلبوا من جماهيرهم التوجه إلى مسجد ابن عباس، وبكثافة، للمشاركة في الصلاة على أرواح من نسأل الله أن يتقبلهم شهداء عنده، وأن يسكنهم فسيح جناته. 7 ـ مرة أخرى يُثبت بسطاء الناس في الميدان وفي العالم الافتراضي بأنهم أكثر وطنية ونضجا ووعيا ممن يوصفون مجازا بأنهم "نخبة" المجتمع. حضرت جموع غفيرة من البسطاء لمكان الحادث، ولمسجد ابن عباس لتأدية صلاة الجنازة عندما غابت نخب المجتمع. واستطاع الشباب والبسطاء من الناس أن يحولوا صفحات الفيسبوك إلى صفحات حزينة، وذلك في الوقت الذي بخل فيه "المفكرون" و"الكتاب الكبار" و "قادة المجتمع" و"رموزه" أن يعزوا أسر الضحايا والشعب الموريتاني على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنهم عرفوا بكثرة شفقتهم على ضحايا البلدان الأخرى. تصبحون في بلد يقدر أبناءه الأحياء منهم والأموات....