قالوا إن خطاب رئيس الجمهورية في مدينة النعمة لا يحتاج إلى شرح، وفعلا لم يكن الخطاب ليحتاج إلى شرح لو لم تعتمل فيه أبواق التحريف والتسميم الموجه والمتعمد من طرف من أرادوا أن يظل لكلام الرئيس عن ضياع مستقبل الأطفال تفسيرا واحدا هو ما ذهبوا إليه، ممن تقطع وتماهى لديهم الخط الفاصل بين السجال والتنافس السياسي، وبين الحس والحرص الوطنيين على الابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة الشكوك بين مكونات المجتمع، لأن من يدعي الحرص على الوحدة والتآخي والانسجام، إذا افترضنا أن هناك من يعمل على نقيض ذلك، يلتمس أحسن المخارج ويُلطف ويتغاضى.. ولكن لا يسارع إلى جمع الحطب و" حك نار" لن يسلم من كرات لهيبها، ولن يفلح في إطفائها بعد أن يحقق أهدافه من إشعالها!
وفي الوقت الذي كان فيه المسوؤلون يحاججون القائلين بالإساءة لشريحة بعينها على شاشات القنوات التلفزيونية، وكان قادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية يتوزعون على مقاطعات نواكشوط، ويقومون بواجبهم في مواجهة حملة تحريف ما ورد في كلمة الرئيس حول الفوضى الأسرية، كانت الفنانة كرمي بنت سيداتي بصوتها الجميل وقدراتها الفنية الكبيرة تنشد أغنيتها الجديدة " ألا يكبظ والا يطلص " المعاتبة كلماتها لشريك حياة " متبعرص "، قضى وطره ولم تعن له الحياة الزوجية سوى قضاء لذلك الوطر..
ورغم أن طلاق الفنانة من زوجها السابق سبق هذه الضجة المفتعلة، وأن أغنيتها لم تكن سوى ردة فعل عابرة على ذلك الطلاق وإن بأسلوب فني، إلا أن هذه الأغنية تزامنت مع ما نتعاطاه اليوم حول كلام رئيس الجمهورية عن ضياع الأطفال بفعل لا مسؤولية الآباء وفوضى الطلاق والزواج والإنجاب، ف " ألا يكبظ والا يطلص " هذه هي تعريف شعبي واختصار لظاهرة الطلاق المعتاد والمنتشر في مجتمعنا.
وفي الكثير من البلدان، بما فيها الإسلامية منها، هناك قوانين منظمة للحياة الأسرية، ومن تلك القوانين ما تم وضعه وقاية واستباقا لتفكك الأسرة كما هو معروف ب " المقدم والمؤخر " الذي يجعل للطلاق استحقاقات مادية على المُقدِم عليه تحد من سهولة اتخاذه لذلك القرار، أما عندنا فلا حائل ولا تبعات للطلاق إلا حائل وتبعات الأخلاق والمسؤولية والقليلون من يستطيعون الالتزام بهما، ولولا الخوف من ضياع الأطفال لما تدخل أحد لأحد في كم يتزوج وكم يطلق، فالخوف على ضياع الأطفال وبالتالي ضياع المجتمع والأمة، هي الحكمة الإلهية في الحث على استنفاذ كل السبل قبل الإقدام على الطلاق، كما أن الحكمة من فرض النفقة هي الحرص على تربية أطفال صالحين، لا أطفالا مشردين جهلاء منحرفين لا نعتقد أنهم هم من سيفاخر بهم النبي عليه الصلاة والسلام الأمم يوم القيامة..
والغريب في الأمر أن البرامج الإذاعية والتلفزيونية اليوم مليئة بالمعالجات حول ظاهرة الطلاق وتشرد وضياع الأطفال، ورفوف مكاتب وزارتي العدل والشؤون الاجتماعية تغص بملفات النزاعات الأسرية حول نفقة أبناء المطلقات، ومع ذلك قامت الدنيا ولم تقعد لأن الرئيس تكلم عن الظاهرة، وهو الكلام الذي لم ترد فيه عبارة تحديد النسل مطلقا، وما فسر على أنه انتقاد لكثرة الأبناء، هو انتقاد لتفرقهم وتشتتهم وبالتالي استحالة رعايتهم وتعليمهم.. وتنبيه على الإهمال وغياب التخطيط والمواءمة بين المستوى المادي وتعاظم المسؤوليات الأسرية من طرف من تلك تصرفاهم ومسلكياتهم، وكما قال رئيس حزب الاتحاد، لنفترض أن رئيس الجمهورية كان يوجه كلامه لشريحة بعينها، فأين المشكلة وأين الإساءة في توجيه قائد لمجتمعه لما فيه مصلحته ويخدم تقدمه وتطوره؟!
الحقيقة أننا لسنا في وارد الحديث عن تحديد النسل بالمعنى المتعارف عليه في بعض البلدان، وحسبنا أن نسيطر على فوضى الإنجاب فقط، ولينجب من يشاء ما شاء من الأطفال، ولكن بشرط أن يكون أولائك الأطفال في أحضان أسر من وأب وأم حاضرين يوفران لهم التربية والرعاية والتعليم.. بالتعاون مع الدولة التي تستطيع توفير المدارس والمعلمين ومجانية التعليم، لكنها لا تستطيع القيام بدور الآباء في تربية ورعاية ومراقبة سلوك أبنائهم، وكفى بتلك الإجراءات تنظيما للأسرة مادام من خالفها سيصطدم بالقانون.
أما من لا يلتزم من الآباء بالقيام بواجباته اتجاه أبنائه مع قدرته العقلية والبدنية، فالواجب هنا واجب الدولة بعدم السماح له بالتملص والتخلص من تلك الأعباء بالهروب منها إلى زواج آخر تتولد عنه أعباء أخرى يتخلص منها بزواج ثالث ورابع وهكذا.. ولن يلتزم الآباء إلا إذا كان هناك رادع، والرادع أعتقد أنه موجود في مدونة الأحوال الشخصية بإلزامية النفقة على الأطفال بما فيها وسائل التربية والتعليم والعلاج..
وبالنسبة لي كلما وقف مسؤول يتحدث عن ظاهرة من الظواهر المعيقة للتنمية، وتحدث عن دور المجتمع المدني والمثقفين وقادة الرأي، حصل عندي الشك الأقرب إلى اليقين بأن ذلك المسؤول إنما يتملص من المسؤولية ويرم الكرة في مرمى بلا شباك ولا عارضات..! لتنطلق بعثات التحسيس وتقام الورشات حول الموضوع وبانتهاء ذلك يعود كل شيء كما كان، في حين أن تطبيق القانون هو أقصر طريق للتوعية في كل القضايا التي نسلي أنفسنا بمعالجتها بما يسمى التوعية والتحسيس اللذين قد يعطيان نتائج، لكنها نتائج جزئية وبطيئة وأثرها محدود في المجتمعات التي ترتفع فيها نسبة الأمية والبدائية، ولا تفي بالغرض في التغلب على القضايا والظواهر التي تتطلب حسما وقطع دابر..
وقد استمعت للنائب في البرلمان ميمونه منت التقي في برنامج بإحدى القنوات تتحدث عن إجراءات تسيير بعثات التحسيس تلك، وباعتبار السيدة النائب إطار سابق بوزارة الشؤون الاجتماعية، فلا شك أنها تدرك حجم كارثة الفوضى الأسرية ووضعية الآلاف من الأطفال ضحايا الطلاق والزواج والإنجاب العشوائي، وباعتبارها أقرت أيضا بأن هذه القضية هي قضية النساء أولا، فلتعمل على أن تكون بعثات التحسيس تلك لا بعثات تحسيس فقط، وإنما بعثات لإحصاء أمهات الأطفال من المطلقات، أو الزوجات المحرومات من نفقة وتعليم أطفالهن بسبب زواج ثان أو ثالث عليهن، والأمهات المتسولات بأبنائهن من آباء متزوجون في الحي أو المقاطعة المجاورة.. والبحث عن آباء أولائك الأطفال واقتيادهم للعدالة حتى يلتزموا بتلك الحقوق، وخلق آلية شفافة وعملية للمتابعة الدائمة لتلك الالتزامات، خصوصا مع النظام البيومتري للحالة المدنية الذي أصبح من السهل معه تحديد هويات الأشخاص ومتابعتهم.