لا يختلف اثنان حول دقة المرحلة التي تمر بها البلاد وإن كان التباين قائما بخصوص تحديد الموقف من حدة الأزمة التي تعيشها مع إجماع كل الأطراف موالاة ومعارضة على ضرورة البحث عن حل يجنب البلاد مآلات بعض دول الربيع العربي أو حتى الصيف الافريقي.
هذه الخطى المتسارعة نحو البحث عن حلقة مفقودة تعيد التواصل بين أغلبية تصر على التصامم ومعارضة تطالب بفرض الرحيل هي ما تجلى في ظهور حمى مبادرات جديدة وكأن البلد لم يشبع مبادرات منذ داكار وحتى مبادرة ولد احمين اعمر، فما الجديد الذي تقدمه هذه المبادرات؟ وكيف ينظر إليها من منظور شعبي؟ وهل سيكتب لها النجاح؟
تثير حمى المبادرات الأخيرة فضول المحللين فمن ناحية هي تعكس مدى حدة الأزمة وحاجة البلاد الى حوار وطني ينتشلها من مستقبل غامض تخطو نحوه مسرعة بفعل تعنت مطلب الرحيل وعدم جدية أصحاب الحكم في نقاش القضايا الجوهرية التي هي مثار جدل كقضايا الانتخابات والوضع الاقتصادي والاجتماعي، ومن ناحية أخرى تعكس عمق الشرخ بين مختلف الفرقاء في تحليل الوضعية التي يمر بها البلد وهو ما يجعلنا أمام خيارات صعبة قد لا يكون وجود جو ملائم للحوار معها بديهيا لأنها مختلفة في كل شيء ولا تكاد توجد بينها أرضية مشتركة تؤسس للحوار الذي تطالب المبادرات به.
أطراف الأزمة مشكلة من قطبين رئيسيين:
أغلبية غير متجانسة: هي مزيج من فسيفساء الاحزاب المرتبطة بالسلطة تاريخيا ولا تشكل عمقا جماهيريا اذا ما استثنينا الاتحاد من أجل الجمهورية الذي يستمد عمقه وقوته من سلطة الدولة بصفته حزبها رغم المنع الدستوري لذلك والذي بدوره تتقاذفه صراعات أجنحة تقليدية مما يجعل عمله يكاد يكون مشلولا. وهو ما يفسر كثرة المبادرات الشخصية الداعمة للرئيس التي تخرج من تحت عباءته نتيجة عدم قدرته على ضبط مناضليه وأنصاره بالتعبير عن مواقفهم داخل إطار الحزب وليس خارجه .
من مشاكل أحزاب الاغلبية غياب التنسيق وعدم تقاسم السلطة بشكل عادل فأغلبية أحزابها تشكو من غياب التشاور بشأن القضايا السياسية الكبرى.
منسقية المعارضة: تقليديا كانت دائما الأقرب للتعبير عن نبض الشارع وهذا أمر طبيعي لأن الأمر يتعلق بانتقاد الأوضاع القائمة دون تقديم حلول لأنها خارج السلطة وبالتالي فمهمتها هو انتقاد الاوضاع القائمة.
تضم المعارضة اليوم بين صفوفها الكثير من التناقض وهو ما يجعلنا نتساءل عن جدية الحديث عن فرض الرحيل من خلال هذا الكشكول السياسي الذي يفرقه اكثر مما يجمعه، فمن ضمنه من دعم انقلاب عزيز واعتبره تصحيحا ومنه من اعترف به في الانتخابات ودخل مع الاتحاد من أجل الجمهورية في تحالفات انتخابية ومنها من كان حليفا خلال كل مراحل الأزمة من الانقلاب وحتى الانتخاب،دون أن نغفل وجود أطراف جدية في مناهضتها للنظام إذ عارضته من أول يوم بل وتنبأت بحدوث الانقلاب قبل وقوعه .
المعاهدة من أجل التناوب السلمي: وهي محاولة لسحب البساط من تحت المنسقية لكن عدم تطبيق نتائج الحوار الذي قادته مع السلطة جعلها تبدو باهتة وغير مقنعة بالنسبة للعديد ممن ينتظرون حلحلة لملف الأزمة.
بعد ان تعرفنا على مختلف أطراف الأزمة يبقي أن نتناول بالتحليل الدور الذي يمكن أن تقوم به هذه المبادرات ومدى فرص نجاحها،وبملاحظة أن أغلب المبادرات التي ظهرت لحد الآن كانت قريبة بشكل أو بآخر من القائمين على السلطة،يمكن أن يتبادر إلى الأذهان أن هذه الأخيرة مهتمة بمغازلة بعض أطياف في منسقية المعارضة وإن كان الأمر قد لا يتحمل أكثر من أنه يعكس وعيا متزايدا ولو بشكل بطيء داخل أوساط في النظام بوجود أزمة ووجوب البحث عن مخرج ينبغي أن لا يتجاوز الحدود التي تضمن مزيدا من السيطرة على مقاليد الحكم والتحكم في مسار الأحداث.
ومن منطلق كهذا يمكن النظر إلى مختلف المبادرات على العموم باعتبارها مناورة لكسب الوقت لحين تجاوز الأزمة وإن كان الأمر سيبدو تعميما مخلا قبل النظر بقرب أكثر إلى بعض أهم هذه المبادرات:
مبادرة نداء الوطن: يقودها العقيد السابق ولد باب امين،وهو شخصية مستقلة غير محببة في أوساط السلطة الحالية،من أبرز ملامحها إحساس أصحابها بعمق الأزمة التي تعيشها البلاد كما أنها تضم فاعلين في الأغلبية الرئاسية وهو ما يجعل فرص نجاحها ضعيفة حتى لا نقول معدومة نظرا لغياب عامل الثقة بينها مع مختلف الفرقاء.
مبادرة مسعود: هذه المبادرة بحسب بعض المحللين مدعومة من طرف أوساط خارجية خاصة الغرب الذي لا يبدو متحمسا لرحيل تطالب به المعارضة، سيخسر من ورائه حليفا في الحرب على الارهاب الذي بات شبحا ماثلا منذ تفكك مالي وتجدد المعارك بين طوائف الطوارق المتقاتلة على قيادة الاقليم المطالب بالانفصال.
مبادرة مسعود قد تبدو الأكثر فرصا نظرا لمكانة الرجل ولما تحظى به من دعم في أوساط بعض شركاء موريتانيا،كشفته بجلاء تصريحات البرلماني الاوربي لويس ميشل حين أعلن أنه أبلغ الجميع "ضرورة المشاركة في الحوار الوطني وعدم الاصرار على مطالب مناهضة للديمقراطية".
مثل ذلك الدعم من شأنه أن يشكل ضغطا ليس على السلطة فقط وإنما ايضا على منسقية المعارضة التي قد تدفعها أيضا حسابات تكتيكية إلى محاولة استعادة المعارضة المحاورة لصفوفها عبر التجاوب مع مسعود أو على الأقل عبر عدم إعلان رفض مبادرته، غير أن ذلك لا يمكن أن يضمن نجاح المبادرة التي يواجهها تحدي تحطم جدار الثقة بين أطراف المشهد الوطني وحدية مطالب كل فريق وعدم القبول بالتنازل لصالح منطقة وسطى يمكن للجميع الالتقاء فيها، مما يجعل التساؤل واردا عن أي مستقبل ينتظر موريتانيا عشية فشل المبادرات في حلحلة الوضع ولأي سيناريو يجب أن نستعد:
هل لتفكيك البلد على الطريقة المالية؟ أم لثورة على الطريقة الليبية؟ خاصة أن البلدين مماثلين لموريتانيا من ناحية التركيبة الاجتماعية والتعدد العرقي.
في انتظار أن تفصح لنا الأيام القادمة عن ذلك سيظل الجدل السياسي مفتوحا على مصراعيه والاستقطاب قائما بين طرفي النزاع والخاسر الأول والأخير حتما سيكون الشعب.