في مطلع الستينيات وبعد حصول موريتانيا علي الاستقلال بدأت ملامح الدولة الحديثة تتشكل وكانت الأولوية آنذاك هي إنشاء الدولة وترسيخ مفهومها ككيان جامع يضم جميع مكونات الشعب الذي كان مشتتا آنذاك في إمارات كل واحدة تشكل دولة بحد ذاتها تتمتع بنفوذها واستقلالها في حيزها الجغرافي الذي تتواجد فيه وقد نجح الآباء المؤسسون بشكل كبير في تلك المعركة التي يمكن أن يطلق عليها معركة وجود الدولة هذه الدولة التي لم يترك فيها الاستعمار الفرنسي البغيض أي معالم اقتصادية ولا بني تحتية ولا مشاريع خدمية أي كان نوعها علي عكس ما فعل في مستعمراته المجاورة .
وفي مطلع السبعينات بدأت البلاد تأخذ مسارها الصحيح بإقامة المشاريع التنموية من بني تحتية وخدمية وبينما كان الجميع يتطلع لغد مشرق بأمل جديد أطلت حرب الصحراء برأسها فأوقفت الجهود وقضت علي الأحلام وبعد انتهاء الحرب خرجت البلاد منهكة و دخلت في دوامة من عدم الاستقرار بسبب الانقلابات والانقلابات المضادة في تنافس حميم بين القيادات العسكرية التي أمسكت بزمام الأمور بعد انقلاب 10 /يوليو 1978 .
وفي مطلع التسعينات اعتمدت موريتانيا وصفة الليبرالية التي حملتها رياح الرأسمالية العالمية والمقدمة من طرف المؤسسات المنفذة لتلك السياسات (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ) حيث بدأت الحكومة بتنفيذ برامج هيكلية وإستراتجيات اقتصادية بتوجيه ودعم من تلك المؤسسات وكان الهدف من تلك البرامج والاستراتيجيات هو خروج الدولة من الحياة الاقتصادية وإفساح المجال أمام القطاع الخاص لأخذ دورها وقد تجلي ذالك بشكل واضح في تخلي الدول عن صروح اقتصادية كبيرة منها مؤسسات ومصانع لصالح القطاع الخاص الذي لم يكن مؤهلا لممارسة هذا الدور الذي يتطلب الخبرة والقدرة علي الانتاجية وبعد النظر الاقتصادي وحسن التسيير جاهلة أو متجاهلة أن النظام الرأس مالي لا يمكن بناءه بقرار سياسي بل هو وليد تراكمات بنيوية علي مدي زمن طويل هذا الواقع جعل القطاع الخاص عبئا جديدا علي الدولة يأخذ من مواردها الشحيحة بلا رحمة حيث أكتفي بالتوريد للدولة وتقديم الخدمات لها معتمدا علي الفوترة والفوترة المضاعفة مشتركا في ذالك مع لوبيات الفساد المعششة في دهاليز الدولة ومراكز القرار وقد تزامن ذالك مع بدأ إطلاق المسلسل الديمقراطي بحفلات انتخابية تؤسس لزواج غير شرعي بين الدولة والقطاع الخاص فكان فارس أحلامها الذي تبحث عنه فأفسحت له المجال واسعا يعبث بمقدراتها المحدودة أصلا بدون حسيب ولا رقيب نتج عن ذالك لاءات كثيرة (لا مشاريع اقتصادية لابني تحتية لا مشاريع خدمية ولا حتي ضرائب تدفع لخزينة الدولة) ليتحول اقتصاد البلاد إلي اقتصاد ريعي يعتمد علي التمويلات الأجنبية التي لا تأتي إلا بشروط مسبقة تخضع الدولة بموجبها لتلك المؤسسات وتجعلها حبيسة لسياساتها التي لا تخدم التنمية الحقيقة بقدر ما ترهق كاهل الشعوب بديون مجحفة تكتوي بنارها الأجيال القادمة , هذه الديون تمثلت في قروض جادت بها تلك الهيئات والمؤسسات للدولة الموريتانية راحت في كثير من الأحيان إلي مشاريع وهمية من قبيل (الكتاب والمطالعة ... مكافحة السمنة....المعرفة للجميع ..... ) إلا أن هناك تمويلات أخري منحتها الحكومة علي شكل قروض استثمارية مباشرة وضختها داخل قطاعات اقتصادية واعدة وقابلة للاستثمار نظرا لتعدد الفرص ووفرت المقدرات لاكن مصير هذه القروض هو التحايل والفساد وتوظيفها في مجالات أخري بعيدة كل البعد عن الهدف المتوخي منها أصلا من ما أدي إلي فشل الدولة في مرفقين مهمين للاقتصاد الوطني هما الزراعة والصيد البحري (القرض الزراعي ... القرض البحري) .
هذا الواقع حول سياسات الدولة من سياسات مركزية ينبغي أن تكون مدروسة تعطي للاستثمار الحقيقي دورا محوريا في الاقتصاد الوطني الي خوصصة تعطي لقطاع خاص دورا ليس مؤهلا له لأن ظروفه لم تنضج بعد لتنتهي تلك الحقبة بانقلاب 3/أعشت /2015 .
ولنتجاوز عشر سنين خلت لنصل إلي اليوم ولنفترض أن الحكومة الحالية جادة وأن رئيس الجمهورية كما عبر عن نفسه دائما لديه النية والإرادة الكاملة لحل هذه المشاكل وتجاوز هذه الصعوبات وهذا ما لاحظه الجميع من خلال تدشين بعض المشاريع التنموية والبني التحتية والخدمية المهمة وانتهاج الحكومة لسياسات ايجابية تصب في هذا المنحي لاكن يجب أن لا يغيب عنا أن حل هذه المشاكل الجوهرية يتطلب تمويلات ضخمة وعاجلة في مقابل ذالك هناك حاجة ماسة جدا لمشاريع خدمية تعتبر ضرورية هي الأخرى لحياة المواطنين مثل الصحة والتعليم ومياه الشرب ...... من ما يتطلب الموازنة بين هاذين الاشكالين وذالك باعتماد سياسات تسييرية صارمة ومدروسة تتميز بالعقلانية وتصويب القرار وترتيب الأولويات مع ترشيد دقيق لكل الموارد المرصودة لهذه المشاريع كل هذا لن يتحقق إلا بالقطيعة الكاملة مع الماضي بكل مظاهره ( الفساد سوء التسيير استخدام النفوذ الزبونية الرشوة اكل المال العام ) هذه المظاهر التي كانت سائدة في المراحل السابقة هي السبب المباشر لكل ما نعانيه اليوم و يعتبر تجاوزها تحديا بحد ذاته فهل الحكومة اليوم قادرة علي رفع هذه التحديات ؟؟؟
القبطان البحري / محمد الأمين محمد حبيب الملقب لمرابط
هاتف : 22361957
Email / [email protected]