هناك نصوص خليلية تلاحق العبيد
وتسمح بممارسة الرق من جديد:
وهذه النصوص الخليلية هي التي جعلت فقهاء الشناقطة التقليديين ـ من قضاة ومفتين ـ لا يجيزون التعامل مع المتحررين من شريحة "لحراطين" , إلا باعتبارهم عبيدا آبقين . ولهذا طبقوا على السيد "بيرام" أحكام العبد الآبق , انطلاقا من قول خليل : [وَنُدِبَ أَخْذُ آبِقٍ لِمَنْ يَعْرِفُ ربه ... فَإِنْ أَخَذَهُ رَفَعَهُ لِلْإِمَامِ وَوُقِفَ سَنَةً ، ثُمَّ بِيعَ وَلَا يُهْمَلُ ، ... وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ ...] قال شراح المختصر عند قوله : [وَنُدِبَ أَخْذُ آبِقٍ] يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إذَا وَجَدَهُ شَخْصٌ وَعَرَفَ رَبَّهُ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَدْفَعَهُ لِرَبِّهِ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ ... فَإِنْ أَخَذَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ رَبَّهُ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ لِلْإِمَامِ ... فَإِذَا رَفَعَهُ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوقِفَهُ عِنْدَهُ سَنَةً ... وَلَا يُهْمَلُ كَضَوالّ الْإِبِلِ لِئَلَّا يَأْبَقَ (من جديد) .
وهذا هو نفس ما يطبقه القضاة الآن في حق بيرام ورفاقه , ولا أعتقد أنهم سيحاكمون في نفس الموعد الذي حدد , بل لا بد من سجنهم سنة كاملة , لأن ذلك هو حكم التعامل مع العبد الآبق عند خليل.
وقد نص أبو عبد الله العبدري , في كتابه : التاج والإكليل لمختصر خليل , والمعروف عند فقهاء الشناطة ب(المواق) عند قوله:
( وَنُدِبَ أَخْذُ آبِقٍ) قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : ( فَإِنْ أَخَذَهُ رُفِعَ لِلْإِمَامِ وَوُقِفَ سَنَةً ثُمَّ بِيعَ ).
وقد أجمع شراح المختصر على وجوب ملاحقة العبد الآبق وعدم إهماله , انطلاقا من هذه النصوص : (وَنُدِبَ أَخْذُ آبِقٍ ... وَلَا يُهْمَلُ) مستدلين بما نسب لمالك في المدونة , أنه أمر ببيع الأُبَّاقِ بعد سجنهم سنة كاملة , ولم يأذن في إطلاقهم يعملون ويأكلون , لأنهم قد يأبقون ثانية . انظر : باب في اللقطة والضالة والآبق واللقيط .
بل لا يكاد يخلو فصل من فصول المختصر , أو باب من أبوابه من نص صريح يرسي ثقافة الرق , ويمجد ممارسة الاستعباد.
انظر:فصل في صلاة الجماعة وما يتصل بها من أحكام.
حيث يقول خليل : [وَبَطَلَتْ بِاقْتِدَاءٍ بِمَنْ بَانَ كَافِرًا ... أَوْ عَبْدٍ فِي جُمُعَةٍ ...]
قال شراح المختصر نقلا عن الْمُدَوَّنَةِ : ( لَا يَؤُمُّ الْعَبْدُ فِي حَضَرٍ فِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ وَلَا فِي جُمُعَةٍ ، أَوْ عِيدٍ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:فَإِنْ أَمَّهُمْ فِي جُمُعَةٍ،أَوْ عِيدٍ أَعَادُوا ؛ إذْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ وَلَا عِيدَ , وَلَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ الْعَبْدُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ أَوْ فِي الْفَرَائِضِ فِي سَفَرٍ إذَا كَانَ أَقْرَأَهُمْ,مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ إمَامًا رَاتِبًا ). وليت شعري هل هذه هي مقدمات الإمامة , أم أنها سياسة لإقصاء العبد من كل موقع للزعامة ,رغم قول النبي صلى الله عليه وسلم:أنفذوا بعث أسامة , أنفذوا بعث أسامة , قالها ثلاثا,ثم توفي.
وقد ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر ، أن النبي أثنى على أسامة ووصى به ، وقال : إنه لخليق بالإمارة .
أإما خليل فإنه يقول : [وَحُجِرَ عَلَى الرَّقِيقِ إلَّا بِإِذْنٍ].
والحجر: هو المنع من التصرف في المال .
قال ابن عرفة: (وكون الرق سببا في الحجر يوجب أصالته في كل ذي رق إلا ما ارتفع بإذن نصا كالمأذون له في التجارة ). انظر : باب أسباب الحجر.
وفي باب النفقات , في آخر قسم العبادات , جعل خليل نفقة الرقيق من جنس نفقة الحيوانات , التي لا يمكن التخلص منها إلا بيعها , فقال : [إنَّمَا تَجِبُ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ وَدَابَّتِهِ ، إنْ لَمْ يَكُنْ مَرْعَى ، وَإِلَّا بِيعَ ...]
انظر : فصل في نفقة الرقيق والدابة ...
وفي كتاب البيوع من قسم المعاملات , جعل خليل مال العبد من جملة الأملاك التي يطالها بيع السيد , باعتبارها ملكا له بحكم ملكه للعبد , وفي ذلك يقول خليل : [تناول البناءَ والشجرَ: ...(إلى قوله) : "ومالَ العبد" ...]
انظر : فصل في بيان ما يتناوله البيع وما لا يتناوله .
وفي آخر باب الإجارة جعل خليل أجرة العبد لسيده , وَحَرَمَ العبد من الاستفادة عمل يده وعرق جبينه , فقال : [أَوْ بِعِتْقِ عَبْدٍ وَحُكْمُهُ عَلَى الرِّقِّ ، وَأُجْرَتُهُ لِسَيِّدِهِ ، إنْ أَرَادَ أَنَّهُ حُرٌّ بَعْدَهَا ]. انظر : باب في أحكام الإجارة والكراء.
وفي مجال النكاح المباح , جعل خليل فسخ العقد , بيد سيد العبد , فقال : [وَلِلسَّيِّدِ رَدُّ نِكَاحِ عَبْدِهِ بِطَلْقَةٍ فَقَطْ بَائِنَةٍ ، إنْ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا أَنْ يُرَدّ بِهِ أَوْ يُعْتِقْهُ ، وَلَهَا رُبْعُ دِينَارٍ إنْ دَخَلَ ، وَاتُّبِعَ عَبْدٌ وَمُكَاتَبٌ بِمَا بَقِيَ ، إنْ غَرَّا ، إنْ لَمْ يُبْطِلْهُ سَيِّدٌ أَوْ سُلْطَانٌ ] .
قال الشراح عند قول خليل : وللسيد رد نكاح عبده , أي فسخه . ويكون ذلك بطلقة واحدة فقط , بحكم أن المطلقة على زوجها العبد لا يمكن أن تراجع أو تعاد , لأنها بطلاق السيد قد بانت من العبد بينونة سعاد .
ثم إن الفقهاء ترخصوا للسيد في الإبقاء على زواج عبده إذا هو شاء ، بخلاف الأمة تتزوج بغير إذن سيدها , فإنه يتحتم على سيدها رد نكاحها .
انظر : باب في أحكام النكاح وما يتبعه
ومن المفارقات العجيبة في باب المكاتبة , قبول خليل لاشتراط العمل الكثير , وعدم قبوله لاشتراط العمل اليسير , مما يعني نوعا من التمالئ مع السيد , لملاحقة العبد بعد المكاتبة ! انظر قول خليل : [وَجَازَ بِغَرَرٍ : كَآبِقٍ ، وَجَنِينٍ ، وَعَبْدِ فُلَانٍ.... واشترط وطء المكاتبة واستثناء حملها أو ما يولد لها وما يولد لمكاتب من أمته بعد الكتابة " أَوْ قَلِيلٍ : كَخِدْمَةٍ ، إنْ وَفَّى " ...] وفي تبرير هذا الظلم , الذي حل بمكاتب لم يبق عليه غرم , يقول الشراح : إذا شرط السيد على مكاتبه أنه إذا وفى ما عليه من الكتابة يخدمه خدمة قليلة كشهر مثلا , فلا يوفي له بذلك لأن الخدمة القليلة في حكم التَّبَعِ , أما لو شرط عليه خدمة كثيرة إذا وفى فإن ذلك يلزمه , وكأنه كاتبه على ما دفع إليه وعلى هذه الخدمة الكثيرة .
انظر : باب في بيان أحكام الكتابة والمكاتب .
ومن المفارقات العجيبة كذلك , أن الأمة المملوكة إذا أتت بولد لم يلحق بسيدها الذي هي على فراشه وقد كان يدخل بها , إلا إذا أقر هو أنه قد وطئها . وأما إذا أتت زوجته بولد فإنه يلحق به وإن لم يقر بالوطء .
وقد أشكل على الفقهاء الذين أباحوا له الوطء في الحالين , كون الولد للفراش كما في الصحيحين , وأن الفراش موجود في كلا الأمرين ؟؟؟
وفي ذلك يقول خليل : [إنْ أَقَرَّ السَّيِّدُ بِوَطْءٍ وَلَا يَمِينَ إنْ أَنْكَرَ : كَأَنْ اسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ وَنَفَاهُ ، وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ... وَإِنْ وَطِئَ شَرِيكٌ فَحَمَلَتْ غَرِمَ نَصِيبَ الْآخَرِ فَإِنْ أَعْسَرَ خُيِّرَ فِي اتِّبَاعِهِ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْوَطْءِ أَوْ بَيْعِهَا لِذَلِكَ وَتَبِعَهُ بِمَا بَقِيَ وَبِقِيمَةِ نِصْفِ الْوَلَدِ...]
انظر : باب في بيان أحكام أم الولد .
بل إنك عند ما تقرأ كتب الفروع تلاحظ ولعا شديدا باستدعاء المفردات التي ترسي ثقافة الرق , وترسخ في المجتمع قبول الاستعباد , من خلال الإلحاح على تلك المفردات , بطريقة غير قرآنية . انظر قول خليل في: باب في بيان أحكام الإعتاق ومتعلقاته [وَالشِّقْصُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَوَلَدُ عَبْدِهِ مِنْ أَمَتِهِ ..; أَوْ رَقِيقِي أَوْ عَبِيدِي أَوْ مَمَالِيكِي لَا عَبِيدُ عَبِيدِهِ كَأَمْلِكُهُ أَبَدًا...]
وانظر كلام الشراح : (يَعْنِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ حُرٌّ أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ أَوْ قَالَ رَقِيقِي أَحْرَارٌ أَوْ قَالَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ أَوْ قَالَ مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ عِتْقُ عَبِيدِهِ الَّذِينَ يَمْلِكُهُمْ حِينَ الْعِتْقِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَكَذَلِكَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُكَاتَبُوهُ وَمُدَبَّرُوهُ وَكُلُّ شِقْصٍ لَهُ فِي مَمْلُوكٍ ...)
انظر عامة شراح المختصر في كلامهم على الإعتاق والتدبير , ولاسيما التاج والإكليل وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير .
وفي باب الردة يقول خليل : [وَمَالُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَإِلَّا فَفَيْءٌ].
بمعنى أن مال العبد لسيده حتى لو ارتد العبد عن الإسلام , فإن ماله يظل ملكا لسيده . انظر : باب في بيان حقيقة الردة وأحكامها .
وما دمنا في باب الردة فلا يسعني إلا أن أنبه , أن خليلا لم يذكر في باب الردة من الكتب المقدسة , إلا المصحف فقط , وقد وفق في ذلك ولا شك , حيث يقول : [الرِّدَّةُ : كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِصَرِيحٍ ؛ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ ؛ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ : كَإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَذِرٍ...]
وأما استدلال البعض بقولهم : (وكذا الحديث كما هو ظاهر وحرق ما ذكر إن كان على وجه الاستخفاف فكذلك...)
فهذا من كلام الدرديري , وليس من كلام خليل .
ومثل ذلك أيضا قول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير : (وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف...)
وخلاصة ما أريد قوله بالجملة , أن حرق الكتب الفقهية لا يدخل في هذه المسألة , ولم يذكره خليل في باب الردة .
إذ ليس من الغريب أن يحرق الناس كتبا بشرية تستجلب العبيد , وتسمح بممارسة الرق من جديد .
وإنما الغريب : وجود دولة ـ في الألفية الثالثة ـ ما زالت تسجن مواطنيها انتصارا لكتب وافدة ألفها أشخاص أجانب ؟!.
بل الأغرب من ذلك أن السجان سبق وأن مارس الرق على المسجون بهذه الكتب ؟!. بل الأدهى من ذلك كله , أن السجان وكل من تعاطفوا معه "موالاة ومعارضة" قد ألصقوا بأنفسهم تهمة لا يمكن التخلص منها , إلا ببراءة كبراءة النواب الذين رفعوا أيديهم تضامنا مع الأحرار أمام وزارة العدل , وليس وراء ذلك من الاعتذار حبة خردل .