تجتاز موريتانيا الآن وضعية دقيقة تستدعي دراسة موضوعية ومتأنية تسلط الضوء على خصائص المرحلة وتشخص الخريطة السياسية وتحلل مسارات التجاذب الذي تعيشه وصولا إلى بلورة رؤية وطنية مستنيرة تجنب الانزلاق وتؤمن التحول إلى بر الأمان. يتميز المشهد السياسي بالخصائص التالية:
تجاذب قوي وحاد بين السلطة والمعارضة’
شخصنة الممارسة السياسية حيث يطغي التسيير الفردي للشأن العام بدل التسيير المؤسسي (أحزاب أفراد، الولاء للفرد لا للبرنامج)،
طغيان النزعات الضيقة (الفئوية، العرقية والقبلية) دون رادع من الدولة أو المجتمع،
غليان الشارع بالمظاهرات والاحتجاجات.
كما تتميز الوضعية الاقتصادية بالركود الذي أدى إلى اتساع رقعة الفقر وانتشار البطالة مع ارتفاع جنوني للأسعار، هذا في وقت يقلع فيه الكثير من رجال الأعمال عن الاستثمار في البلد بسبب غياب مناخ مؤسسي مطمئن.
وقد زادت من حدة هذه الوضعية حالة الجفاف التي تعرفها البلاد هذه السنة.
ولم توفق مساعي السلطات العمومية في التخفيف من وطأة هذه الوضعية على المواطن ولا على أداء الاقتصاد بفعل ارتجالية القرارات وضعف الإدارة المنهكة بالزبونية التي تطبع التعيينات والترقية حيث أغرقت بكم كبير من الأشخاص من خارج أسلاك الوظيفة العمومية. وفي خضم هذا الجو المشحون بالمشاكل والصعوبات على كافة الأصعدة يتوزع الطيف السياسي الوطني قطبان: الموالاة والمعارضة.
ويتمحور قطب الموالاة حول رئيس يمسك كل السلطات وجميع الملفات ويتابع كافة القضايا مقابل حكومة وطاقم سياسي يكتفي بتنفيذ ما اسند له من أوامر دون مبادرة أو مشاركة.
وتتكون الموالاة من العديد من الأحزاب التي لا يجمعها فكر ولا مرجعية ولا تمتلك رؤية مشتركة ولا تتمتع بأي هامش، لذا تحولت الأحزاب إلى ديكورات للمناسبات وتوزع الفاعلون السياسيون ما بين متنطع يقوم بالأدوار القذرة التي ترسم له أو متفرج لا يعنيه الأمر.
فعلى الرغم من انتماء غالبية حملة الرأي الوطني والنخبة الإدارية والاقتصادية لهذا القطب فإن تأثير هذه القوى معطل بفعل غياب التشاور والمشاركة حيث لا يلمس وجود يذكر للمجموعات السياسية باستثناء المجموعة الوحيدة التي يتقلد أفراد منها العديد من الوظائف السامية من بينها (الوزير الأول، رئيس المجلس الدستوري، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، النائب الأول لرئيس مجلس الشيوخ والنائب الأول لرئيس الجمعية الوطنية) مما أضفي ضبابية على الممارسة السياسية في البلد.
أما المعارضة فقد انقسمت إلى معارضة محاورة ومعارضة تدعو لرحيل النظام.
ففي حين فضلت المعارضة المحاورة الجلوس على طاولة المفاوضات مع النظام، فإن منسقية المعارضة الديمقراطية تبنت الدعوة لرحيله، وهي مجموعة من الأحزاب ذات المرجعية الفكرية والماضي السياسي المتباين، لا يجمعها إلا شعار الرحيل الذي لم تتمكن بعد من إقناع الرأي العام بمبرراته ولم تفصح عن كيفية الوصول إليه ولا عن البديل الذي تسعى له.
إن هذا الوضع المقلق وما يصاحبه من احتقان سياسي يفرض وثبة وطنية من كافة القوى السياسية موالاة ومعارضة للشروع في حوار شامل يتسع للجميع، ذلك أن مواصلة التجاذب الحاد سيوقف تدريجيا عجلة البناء ويؤثر سلبا على ثقة المواطنين والشركاء في مؤسسات الدولة مما سيؤدي إلى شللها أو انفلات أمني غير محسوب.
إن طرفي اللعبة مطالبين بمراجعة خطاباتهم التأجيجية ومفرداتهم الغريبة على قيم البلد، فالحرب أولها كلام.
في مناخ دولي يشجع الحروب والفوضى فإن الجميع مطالب أكثر من أي وقت مضي، حفاظا علي البلد والسلم الأهلي، بالعمل علي:
ـ الابتعاد عن النهج الأحادي في التسيير’
ـ إعادة الاعتبار للسياسيين وأصحاب الرأي،
ـ الانفتاح على الفاعلين الاجتماعيين،
ـ إضفاء مسحة أخلاقية على الحياة العمومية،
ـ تسيير توافقي لانتخابات مقنعة للجميع.