كنا أطفالا نحلم بدولة العدل والمساوات في هذه الربوع نستلهم من تاريخها وثقافتها ما يشجعنا على هذا التوجه مؤمنين إيمانا قل نظيره بأن هذه المنطقة ستتحول بفعل فاعل الي قبلة للديمقراطية وواحة للتعايش السلمي والاستقرار.
لكن سرعان ما تغير الحال بتبدل الأزمان والمتغيرات التي عصفت بهذه الصقع، فصارت البلاد تسير في نفق مظلم عنوانه العريض ديكتاتورية قل نظيرها في ثوب ديمقراطي ملبس بلبوس الشرعية والعدالة الاجتماعية ومحسوبية و قبلية وجهوية وتلاعب بمقدرات البلاد والعباد، وزد على ذلك فالأمر يحتاج الي دراسة فيزيولوجية واجتماعية ونفسية لفهم هذه الظاهرة الغريبة فالقوم تكيفوا مع الواقع الجديد بما يفرضه من سنن لا كسنن البشر التي وفقها يتذوق الأشياء محددا ما يريد وما يبحث عنه، وما يعادي وفق قانون الطبيعة الانسانية التي تحدد بقدر كبير ما يجب أن يفعل أولا يفعل على الأقل في الذائقة البشرية العامة، فصار ما لا يقع في بلاد الواسعة يقع في بلادنا وصار العنوان البارز لجمهوريتنا لا تستغرب فأنت في بلاد شنقيط فالطبخة الشنقيطية تستوعب أعتي ديكتاتور مبجلة ومقدرة ومنافحة له والعكس صحيح.
غريب أمر هذا الشعب المسكين بأريافه ومدنه أن لا يحظى بحاكم منذ تأسيسه وحتى أيام الناس هذه بعد أن اختطفها العسكر فغيروا كل شيء ووأدوا أحلام الطفولة ببرائتها وما تضعه في فن الممكن و اللا ممكن ، و كان دور العسكر دور القاتل للضحية ولم يبق من هذه المجتمع و أحلامه إلا بحث عن رغيف خبز وحياة تذل فيها الكرامة الانسانية وتحتقر. فكان القاتل يعرف معرفة العارف بأن التسلط والتجبر هما المغيران لفهم وأذواق الشعوب وتحويلها الي أغنام وللاه المثل الأعلى تسير وفق الملهم مبجلة ومؤله، وكأنما لسان الكون ينادي في العالم بالنوم والخمول فأجاب . على حد تعبير ابن خلدون .
كانت هذه الصورة من أورع ما قال ابن خلدون عندما تفطن الي الركود والانحطاط الذي أصاب الأمة العربية والاسلامية، والحال يصدق على بلادنا منذ أن اختطفها العسكر، ونحن نعيش أزمة تلو الأزمة تائهين في مطبات الجنرال و نزواته وأفعاله فلا رأي إلا رأيه ولا قول إلا قوله كأن كل شيء اختزل في شخصه ومؤسسته فلا مكان للآخر إلا ما كان من تمجيد وتطبيل وتزمير من مثقفي هذا البلد وطبقته العامة المفتتنة بشخص القائد و أفعاله .
حتى وصل الأمر الي حد التصوف الشاطح وكأننا أمام ملحمة كالأوديسية والالياذة بأبطالها الذين كان لديهم قدر كبير من الطموح ممزوج بقدر كبير من حب المجد واكتسابه ولكن أفعالهم تلك أقرب الي الأسطورة والتسلية وإشباعا للطاقات أكثر منه تفكيرا في حياة الشعوب و توظيفها بما يخدم الصالح العام.
فلا مكان للدولة التي تستعين في أساسها على الكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها كما قال الكاتب المختص في علم الاجتماع بورك إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع ان تحتفظ ببقائها.
فالبلاد في خمسينيتها لم تتفطن الي المرض وإن حاولت أن تعالج الأعراض تماما مثل طبيب يواجه حالة انسانية فلا يهتم بمكافحة الجراثيم وإنما يهتم بهجيان الحمي فلا نظر إلي مشكل الهويات والتلاحم الاجتماعي والمساوات وتأسيس دولة الحق ولا إلي الأمية والجهل والفقر ولا إلي ما تراكم خلال سنين عديدة من الظلم والقهر لشعب لم يستكن يوما على الأقل في مكان معين وأسس حضارته كما هو مسموم به في أدبياته، وإن استكان لدولة العسكر وأسس عليها تفكيره في ما يجب على السلطان وما يورق له وما لا يورق ولزمرته .
فكانت التركة ثقيلة وتعددت جوانبها فاصبح المشكل في مبدئه بنيوي يتعلق بمفهوم السلطة وما ينبغي أن يفعل السلطان في منهج يدل على سوء الاخراج والفواصل كعادتنا فنظرية الملهم وتحول الالهام من سلطان الي سلطان عادة درج عليها مثقفونا حتى إذا أودع السلطان نفسه الي بارئها أو أزيح عن الحكم انقلب الحال رأسا على عقب فصار الشتم والقدح والبكاء على ما أفسد الدهر ديدنا وميسما لنا .
صورة مريرة تعكس واقعا معاشا تعودنا فيه على أن للسلطان صولاته وجولاته وأن إلها يحرسه وينزل عليه من السماء ليعطيه الحكم كما درج عليه من سبقونا في العصور الغابرة حيث تتعانق الآلهة مع القائد في سيفونية تفيد بأن السلطان لا يخطئ وأن الشعوب هي التي لا تفهم ما يفعل قصورا منها في الإدراك والفهم.
محاولين أن نناقش بعض القضايا المطروحة والملحة في بلادنا، وما وصل إليه الأمر علنا ندرك خطورة الموقف وحساسية المرحلة:
1ـ احصاء ومشاكل عرقية يندي لها الجبين في سياسة تمييز ومحاباة تعمل بمبدإ من ليس معنا فهو ضدنا حتي وصل الأمر الي أزمة هويات تختزل في حب الوطن وبغضه متمسكين بالتنخدق وراء الإثنيات والعرقيات المختلفة راسمين صورة مأساوية لتشرذم المجتمع وانهيار قيمه الاجتماعية والاقتصادية بدعوات في أساسها عرقية تصور الآخر غولا كامنا في الصدور له عاداته وتقاليده ونظمه العشائرية المعادية للآخر ومن الواجب القضاء عليه بدل منهج التفاهم والبحث عن المشترك التاريخي والديني والاجتماعي .
وكأننا أمام مجتمع لا يحكمه سوي بطاقة هوية ـ إن وجدت ـ مؤلفة من الاسم والمكان وتعداد لبعض الصفات الشخصية وتوقيع وأحيانا بصمات الشخص .
لقد تشكلت العلاقات بين الإثنيات في البلاد على هذا النحو على الرغم من أن ثمة إسلامية تروج لإسلام القوم واتخاذهم المنهج القويم الذي ينبذ التطرف والإرهاب وبالتالي فلا غلق على الهوية فالحراك وكل ما في الأمر هو شرذمة قليلة من العلمانيين تدعوا إلي التطرف وهي في الأصل عميلة للأجنبي.
أو قومية عربية وزنجية يختلفان في الطرح والغاية ، فالأولي تركز على شكليات مستلهمة من الجنس العربي وأفضليته وأحقيته في الأخضر واليابس علي شكل الجنس الآري أيام الهتلرية المقيتة .
أو زنجية هي في مبناها رد فعل على واقع إقصاءي مرير عاشته فهي الجنس الثاني و هي مقصية من الوظائف والمشاركة في بناء الوطن .
هكذا بهذه الصورة تتجسد أمامنا صورة مجتمع هش غيب وأرهب وحول قسرا الي مجتمع لا يعرف ما يريد من وراء سياسات تدل على النظر القصير في الأمور و ارتداتها، وليست عملية الاحصاء الأخيرة والاضطرابات التي تلتها الا عنوان لذلك الصراع الأبدي ليختزل الأمر من قبل أهل الرأي في هذه البلاد بأن كل ما في الأمر هو شرذمة مارقة على القانون تريد أن تعبث بالدولة ومقدراتها ـ حسب ما تروج له قناتنا اليتيمة، من خلال شهادات معاصرين للحدث والتحدث عنه بنبض الشارع .
وبديهي القول بأن تلك الارتدادات إن لم تعالج وفق آلية المشاركة والوطنية والتفاهم حول المشترك فأن مصيرنا سيكون في خطر خصوصا أمام المتغير الدولي وما يملي من شروط وواجبات من أجل البقاء في فضاءه.
2ـ الحوار عن أي حوار نتحدث وفي أي اتجاه نصنف المواقف فالمستبد لا يمكن أن ينتج سوي مستبدا من طينته وجنسه سواء أكان معارضا أو مواليا، وما نلاحظه اليوم لا يرقي إلي أي مستوي في أن يفهم بالمعني الوطني الباحث عن آليات وفقها يسير ويؤسس من خلالها جمهورية تراعي ما يجب أن يراعي في شعب منهمك ينتظر السماء أن تمطر ولا تمطر.
فاللعبة الحوارية مكشوفة والأسباب التي أدت إلي وجودها أوضح من الشمس في رابعة النهار فأهلها يتقاسمون الكعكة وفق قانون الغاب لاهم وطني ولا بعد إصلاحي إلا ما كان من غوغاء الكلام .
3ـ أما الجانب الاجتماعي فحدث ولا حرج فالطبقة الكادحة تزداد يوما بعد يوم ويتقلص أمل المستضعفين والحالمين بأي نوع من أنواع العيش الكريم حيث يساوم الانسان الموريتاني في كل شئ حتى في تنفسه لهواء نقي .
وطبقة أخري أقلية في نعيم ورغد قد أوتيت من العلم القليل لكن توظيف ذلك العلم أتي أكله وثماره فجنت من وراءه ما تستحق وأكثر حتى صار الأمي يتصدر المجالس وحلقات الدرس والافتاء والحال أنعكس على الجانب الثقافي وألغي بظلاله الوخيمة عليه .
4ـ أما الجانب الاقتصادي فالحديث ذو شجون يدفع بصاحبه إلي نوع من المكابرة وجلد الذات حتى يصنف في باب المتصوفة والأولياء، فالأرض بما أنتجت والبحر بما أعطي كلها قصص يحدث بها الجد أبنائه في اتراجيدية مفادها بأن هذه الأرض المعطاء كانت تدر على أبنائها الكثير من الأرزاق والخيرات لكن سوء التسيير والتخطيط وغياب البرامج الإنمائية حولا المدينة الي مكان للمعوزين والفقراء .
غريب جدا أن نصل إلي هذه المرحلة وكأنا فتحنا فصلا جديدا من الاستبداد طابعه تغيير المفاهيم والأفكار وتسيد ووطنية من لا يستحقها وعكسه صحيح حيث المجرم ذلك المواطن الحالم فقط ببناء دولة يري فيه العدالة تتحقق ويختفي من مثلها أسوء تمثيل حتى صار الشامتون يعيرونا بأنا مرتزقة القذافي وأعوانه، وبأنا من جلب الي بلاد الله الطاهرة خبثنا بعد أن كان الشنقيطي مصدر عزة وفخر، اللهم لا شماتة .
لكن السؤال المطروح هل من أفق لتغيير هذه الوضع المأساوي في زمان ساد بغاثه وعلى المنابر من ليس أهلا لها؟.
هل هي استعادة النماذج العربية في ثوراتها المباركة ؟ أم إصلاح البين وتجاوز الفوارق لنصل الي حل سلمي يجنبنا ما وقع فعلا في بلدان أثبتت أن الثورات طريق الاصلاح وليس التبدل من جحيم الي نعيم .
أفقين يحاول أن يلعب من خلالهما النظام في معادلة الاصلاح والحوار بين الأطراف لوأد الصدع بين مختلف الشرائح لكنه أبعد ما يكون من حوار جدي يؤمن بمبدأ التمازج والتلاقح بين الأفكار في دولة الحق، وخوف ذريع من ثورة تغير السادة والأفكار المتربعين على السلطة منذ الاستقلال وحتى أيام الناس هذه فالم يتغير سوي رأس الهرم وبقيت قواعد اللعبة في قوي تحمل السلاح فتولي من تشاء وتعزل من تشاء، وبذلك تضيع أحلام الطفولة التائهة لتتمني من باريها تحولا في الجينات والأفكار حتى تصل الي المبتغى في ثوب جديد مغاير لما هو معاش.