"أحرقت كتب فقامت الدنيا ولم تقعد وحرق وجه آدمية فلم ينبس احد ببنت شفة". كان رفيقي عباس ذات مرة أشار في أحد مقالاته حول محرقة الكتب إلى أن التفكير الأصولي يدفع أصحابه إلى الاستهانة بالبشر، وعدم الاهتمام بما يتعرضون له من اضطهاد وتنكيل وقتل حتى، في مقابل الاهتمام بمسائل ثانوية إذا ما قورنت بمتعلقات الإنسان بأسلوب تهكمي ساخر حيث قال:
"ما الذي يحدث عندما تقوم طائرات الشرير بوش بقصف منزل عراقي و تموت أسرة كاملة من 16 فرد وتأتي الصحافة لتغطية المذبحة؟ تحدث أمور عجيبة. يأتي أصولي بجلباب قصير و يتعدى الجثث المتكومة إلى كومة الخراب و يحفر فيها قليلا ثم يعود بمصحف محروق و يرفعه في وجه الكاميرا و يصرخ ضد "تدنيس أميركا الصليبية للقرآن".
الذي يحدث هو أنه يتم تجاوز النية إلى غير النية. وتصرخ الجموع و تنساق في حملة كبيرة ضد المقدسات و تنسى الأرواح والأفكار.
و هذا ما حدث في قضية المحرقة. عندما أحرق متطرفو نواكشوط كتبا مالكية احتجاجا على تكريسها للاستعباد، (فهي حتما لا تحرق الكتب الدينية لأنها كتبا دينية)، تم ترك نية حرق وجود استعباد في الفقه و تم تجاوزها إلى حرق الكتب الدينية و تم إطلاق أوصاف التكفير. كل أحد انجر في معركة المقدسات".
وهذا ما رأى فيه بعض المتفاعلين بالمقال المذكور انه مبالغة وتحامل لم يفتأ عباس يأكدهما من خلال مقالاته المترصدة أبدا لتيار بعينه حسدا له ونكاية وغيرة منه ... إلى غير ذالك من الاحكام القيمية الجزافية التي تفضل دوما الدوران حول النص بدل التغلغل إلى دواخله ومضامينه، ربما لتكفي نفسها مؤونة حوار فكري هاجسه النقد والمسائلة والإنفكاك من المسلمات والقطيعة مع العذرية ـ الطابو التي تحاط من طرف المتفاعلين المذكورين بشظايا من القدسية تروم عرقلة سير كل عابر وواطئ لحرمها .
أنا اليوم مقتنع اكثر من ذي قبل بما ذهب إليه الرفيق عباس لان الدليل أقام نفسه هذه المرة على أديم أرض الوطن وهكذا كانت القصة:
في يوم جمعة مشهود احرقت المبادرة الانعتاقية مجموعة من الكتب الفقهية في محرقة رمزية تدين من خلالها فقه النخاسة وتبريرية الدين السائد وتبسيطيته لمسألة الرق... وما إن نمى الخبر إلى المسامع حتى خرج علية القوم ودهماؤهم يرومون تغيير المنكر بيد امير المؤمنين!، ومن تخلف عن الخروج كالأحزاب والمنظمات والروابط الوهمية أدان الامر بلسانه. وأنا متأكد أن قلوبا كثيرة استنكرته تدرجا مع مراتب تغيير المنكر الشائعة.
بالأمس القريب اجهز جهاز القمع على المناضلة ليلى منت احمد عقيلة رئيس المبادرة الانعتاقية الرئيس بيرام ولد الداه في محاولة لاغتيالها ـ حسب ما صرحت به ـ فخاب سعيه ولم يفلح في زهق روح "الخادم الآبقة" ولكنه سفع محياها وأمعن في تحريقه، في فعل لا يخلو من القصدية وسبق الترصد والإصرار... حملت جراءه ليلى على جناح السرعة الى المستشفى وهي مغمي عليها...
ورغم فداحة هذه الخطوة وخطورتها البالغة في استهداف روح بشرية لم يتجاوز الامر سوى كلمات فاترة سجلت بها المواقع "الوطنية" خبر حدوث الواقعة او تدوينات وتعليقات متشفية، في أغلبها على مواقع التواصل الاجتماعي تستبطن الروح العنصري الذي كنا نبهنا عليه في وقت سابق!
ان هذا يطرح اشكالا حقيقيا حول استهانتنا بالإنسان الى هذه الدرجة! فكيف يعقل ان امة بحذافرها تتعلق بالأوراق والحروف اكثر من تعلقها بالإنسان؟!
لا بد ان هناك خللا بنيويا في وعينا يدفعنا صوب احتقار الانسان بل وازدراء كل ما هو "أرضي" في حين اننا نعيش على الارض وسنواصل مواجهة مصائرنا عليها!
انه من غير الطبيعي بالنسبة لي ان يحتل المفارق مكانة مكينة فينا لدرجة نفقد معها الاحساس بكل ما حولنا مما نعيشه راهنا وحقيقة!
انا اسجل ما اذهب اليه وأتساءل عنه، في نفس الوقت الذي استحضر فيه ان الذين اتوجه اليهم بكلامي قد لا يرون في المناضلة ليلى انسانا كاملا لأنها اولا أنثى ("ناقصة عقل ودين")، ولانها ثانيا "خادم" لا تخولها رؤيتهم الولوج الى دائرة الانسانية الكاملة، هذا لأنهم لم يستطيعوا الإنبتات من التعلق بالاستعباد والقول بوجوده بل وبشرعيته استنادا الى نصوص ذكرت العبيد والى تأويلات بوبت عليهم، وهم عاجزون عن ادراك ما يستلزمه الايمان بالدولة من تحوير لفكر من هذا القبيل، وهم مصرون على التمسك به حتى اشعار ديني آخر. هذا بالنسبة الى من لا يرى صلاحية هذا الفكر مرهونة بصلاحية النصوص، وهؤلاء اكثر "الجماعة!
ان سيادة وعي من هذا القبيل تطرح بإلحاح ضرورة العمل على اشاعة فكر انساني يحترم الانسان بما هو كائن سام ويراه محور الوجود، فيغربل الثقافة السائدة على هذا الاساس ويكون الاجيال عليه، لان استمرارنا في هذا المنحى قد يودي بنا الى ما لا تحمد عقباه. فنحن بالتمسك به نضع الانسان في دائرة الخطر.