كلما ارتفعت درجة حرارة الاحتقان وتعددت عوامله، كلما اتضح أن السلطة لا تريد أن تراهن على أكثر من قوة القمع مدعومة بأجهزة دعائية متواضعة الخبرات وضعيفة المصداقية. هكذا تم التعامل مع الحركات الشبابية الاحتجاجية ثم مع منسقية المعارضة الديمقراطية وأخيرا مع الحركات الفئوية والعرقية الساعية لقلب التوازنات التقليدية داخل الدولة، وهكذا أيضا تمت مواجهة المطالب الشعبية والاحتجاجات العمالية وتظاهرات الطلاب والعاطلين...
هل تريد السلطة أن تقول للجميع بأنها مطمئنة لخيارها القمعي وأنها قادرة على فرض الطاعة بالقوة وجاهزة للجوء إليها كلما دعت الضرورة؟ أم أن الفئة الحاكمة –بعبارة أخرى- تريد أن تترك الانطباع بأنها لا تشعر بضجيج الهزات التي تعصف بالعالم وبالمنطقة ولا تقيم وزنا لتداعياتها القائمة والمحتملة؟
والأسوأ أن ذلك يتم عبر تبني شعارات الربيع العربي، لكن أيضا وفي الوقت ذاته عبر الاستنساخ البائس لأساليب التزمير والتضليل "الطائعية" وعبر نفس الأشخاص أحيانا أومن تربوا في أحضان الدكتاتورية وتخرجوا من مدرسة الحزب الحاكم والقائد الملهم والانجازات العملاقة... وكأن هناك أهمية استثنائية لأن نكون سبقنا العرب للثورة، إن لم نجن من ثورتنا غير المزيد من مركزة السلطة والتهاون في احترام القانون واتساع قاعدة الفقر والقلق على المستقبل؟ أو كأن الثورة شيء مقدس لا يمكن المساس به حين تعجز عن ضمان تحقيق المصلحة العليا للوطن أو حين تسقط في قبضة الثورة المضادة؟
تتساقط أعتى الدكتاتوريات من حولنا، ومن حولنا تفشل دول وتعجز أخرى عن احتكار ممارسة العنف داخل أراضيها، تكسر الشعوب حاجز الخوف وتخوض ملاحم مؤلمة لتشييع نموذج الدولة القمعية، بينما نستميت في السباحة عكس التيار ونحن نسابق الزمن لبناء سلطة لا تتسع لمعارضتها المحاورة ولا حتى لمساندتها أحرى أن تجد أرضية مشتركة مع المعارضة المطالبة برحيلها! سلطة تعتمد على قوة السلاح بدل قوة الحجة وتغريها صناعة الخوف بدل صناعة الأمل!
نتصرف وكأننا لم نفهم بعد دوافع المحتجين في ميادين تونس والقاهرة وصنعاء، ولم نقدر تضحيات ثوار بنغازي وحمص حق قدرها، أو كأننا لا نؤوي داخل حدودنا عشرات آلاف الهاربين من أتون حرب أهلية مأساوية نشبت بسبب التهميش والتعسف وغياب الحوار! ومع ذلك لا أحد من بيننا يمتلك الحجة الكافية للبرهنة على أن موريتانيا جزيرة معزولة عن العالم ولا أن قدرها أن تظل تعيش على هامش التاريخ!
وحين نتساءل بجدية حول مصدر اطمئناننا لا نجد الكثير مما يدعو إلى التفاؤل: هل شهدت المشاركة الشعبية في صنع القرار تطورا ملموسا، أم بات تركيز السلطة والشطط في استخدامها هو الطابع المهيمن؟ هل نتحرك بثقة باتجاه مزيد من الاندماج الوطني؟ أم أن نسيجنا الوطني يتمزق أكثر فأكثر ليعيدنا إلى مرحلة ما قبل الدولة؟ هل تتحسن سيطرتنا على ثرواتنا، أم أنها تسقط أكثر فأكثر في أحضان الشركات الأجنبية؟
هل تمكنا من بلورة سياسة حماية اجتماعية تعيد للدولة مسؤولياتها الأساسية، أم أننا نتوغل أكثر في المراهنة على قوانين السوق وقواها الجائرة؟ هل ساعدنا في بناء ثقة متبادلة بين الشركاء الاجتماعيين، أم أن الحوار الاجتماعي في عرفنا –مثل الحوار السياسي- ليس أكثر من مناورة استعراضية مفصلة على مقاسات جد ضيقة؟
أما حين يتعلق الأمر بوضع آليات للتوزيع العادل للثروة، فلن يمكننا حتى الاستماع للحديث عنها وسط صخب فضائح التسيير والصفقات وتهالك الادارة. ومع كل ذلك لا نريد أن نقدر ما نواجه من تحديات، حق قدرها، ولا نريد أن نعطي الأولوية للبحث عن الحلول بدل إطالة عمر الأزمات وافتعالها!
اقلام حرة