لعنة الفقر والجهل والحاجة هي ماجعلت الشاب حسن الذي لم يتجاوز من العمر العشرين يتحمّل مشقّة رحلة صحراوية طويلة من موطنه غامبيا الى ليبيا، لم ير فيها بقعة خضراء فلا وجود إلاّ لرمال الصحراء وسواد ليلها ليبزغ الفجر في اليوم التالي على كثبان رمالها وهذه الحال استمرت لعشرين يوما في طرق غير شرعية لا يدركها إلاّ سائق الشاحنة الذي خبِرها جيّدا بفضل جهاز جبس الذي برفقته وقد تأكّدّ الركاب من صُلُوحِيّتِه وقد كان ذلك شرطا أساسيّا قبل دفعة أجرة الرحلة التي تبلغ مايعادل 300 دولارا للشخص الواحد، وهذه الرّحلة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة بالنسبة للسّائق فهي مصدر رزق وفير له ،وشهرته واسعة في غامبيا.
لذلك انتظر حسن طويلا ليتحصل على مكان في هذه الشاحنة تحديدا وهي من نوع تيوتا ومهترئة بعض الشي ولاسقف لها إلاّ السماء والشمس الحارة نهارا والظلام وبعض النجوم ليلا ،التي تشارك في عدّها أحيانا مع بعض من رفاق الرّحلة المئة والثلاثون ليمضوا الوقت وينسوا ذاك الضيق الدي أُقْحِموا فيه فلا يكاد المكان يسمح لهم بمدّ أرجلهم إلاّ بالتّناوب او حين يتوقف السائق لملء الوقود لشاحنته من البراميل التي كانت ترافقهم وتزيد المكان اختناقا وتمنعهم من إشعال سجائرهم التي لايقربونها إلاّ في ذلك الوقت فيستغلوّنه لقضاء حاجاتهم أو مايمكن جمعه من صلواتهم في صلاة واحدة.
أمّا الطّعام فقد كان في أغلب الأحيان مقتصرا على الخبز والماء عدى الأيام الاولى قبل أن تنتهي أكياسهم الصغيرة التي يُسْمَحُ لهم بحملها، لأنّ المكان ضيّق ولايتّسع للكثير من الأمتعة أو الأطعمة وهذه من شروط الرحلة الصحراوية التي تبدأ بقطع الحدود بطريقة غير شرعيّة من غامبيا، ثمّ يتمّ المرور بمعظم الصّحراء الجنوبيّة الغربيّة لافريقيا مرورا بالسنغال ثمّ مالي إلى بوركينا فاسو ثمّ النيجر بوّابة المرور إلى ليبيا فاتحة الحلم بأوروبا، تلك الأحلام التي كانت تعانق ذاكرته وخياله طيلة الرحلة التي تتوقّف في وسط الصحراء الليبية لتنقلهم سيارة نقل أخرى، ليبيّة كانت في مجيئها محمّلة بسلع تموينيّة ليبيّة مهربة ويتم تبادل الحمولات وتعود كل سيارة إلى وجهتها وتوصلهم السيّارة اللّيبيّة لمدن بالجنوب الليبي بداية من مدينة مرزق تم مدينة سبها ويمرّون عبر هذه المدن وأحيانا يستوقفونهم في بعض البوابات، قد يقدّمون غرامة مالية ويُفْرَج عنهم أو يُحْتَجزون بعض الأيام أو الساعات تم يُفْرَج عنهم وعادة يكون المال هو سيّد الموقف، هذه الرحلة تحتاج للكثير من المال للوصول وهذا ما جعل والدة حسن وإخوته يبيعون ما يُمكن بيعه وهذا لم يُحزن العائلة الفقيرة التي تتكوّن من أرملة وستة أبناء أكبرهم حسن الذي يعقدون عليه كلّ آمالهم فتنضاف لقائمة أحلام المهاجر وتزيده ثقلا على كاهله.
حسن قرّر إن نجحت رحلته ووصل الى إيطاليا أن لايبقى فيها طويلا. هي مجرّد محطّة عبور يتمّم فيها ملفّ الهجرة وسيختار اللّجوء إلى إحدى الدّول الاوروبية الاخرى ربما ستكون ألمانيا او السويد حسب اعتقاد حسن أين سيتحصّل على عمل ومرتب يحقّق لهم آمالهم. أمّا الآن فعليه أن يُحافظ على عمله في مستودع لتنظيف السيارات بطرابلس قبل أن ينتقل الى مهن اخرى ويجني منها المال الضّروري للرّحلة وهو عمل أكثرمن سنة، وماكلّفه بعض العناء هو العثور على وسيط يعمل في تهريب البشر عبر قوارب في البحر.
وتحصّل حسن بعد مشقّة على أحدهم بواسطة صديقه عصمان الذي وصل الى اوروبا من فترة ويشجّعه على اللّحاق به عبر الاتصال المستمر بينهما، ورتّب حسن موعدا مع الوسيط ليلتقوا ولكنّ هذا الأخير أخلف الموعد وتحدّثا فقط عبر الهاتف وأخبره المهرّب بتفاصيل الرّحلة وكلفتها طالبا منه 1500 دولارا وبعد محاولات من حسن للحطّ من المبلغ، ٱتّفقا حول 1300 دولارا على أن يتحمّل حسن مرارة الانتظار لفترة أخرى قد تصل الى أكتر من شهر، وأخبره بأنّه سيتّصل به في أيّ وقت وسيعلمه بموعد الرحلة.
وظلّ حسن ينتظر هذا الاتّصال الّذي لم يأتِ إلاّ بعد ثلاثة أسابيع صباح أحد الأيام يخبره بأنّه ستأتي سيارة في المساء وستنقله الى مكان الرّحلة وأخبره بألاّ يجلب معه أيّ أغراض غير ما يرتديه من ملابس وما يملكه من مال، هذا بعد أن وصف له حسن مكان إقامته في أزقّة طرابلس بالمدينة القديمة وجاءت السيارة بالفعل في الموعد ليتبادلا كلمة السر التي اتفقا عليها وتنطلق السيارة الى وجهة غير معلومة الا أنّه ادرك بأنّه خرج من العاصمة وتوجّه غربا حاول ان يسأل السائق ولكنه تراجع عندما وجد من معه يلتزمون الصمت وأخيرا سأل حسن ولم يستطع الانتظار لأنّ الرحلة تجاوزت الساعة والطريق طالت بين طريق رسمي وطريق فرعي خال من أيّ إشارة او إضاءة أو حتّى بوابة أمن ، ولكنّ السائق لم يجب على سؤاله وأمره أن يلتزم الصمت وإلاّ سينزله في هدا الخلاء، وبعدها بفترة وجيزة أمرهم السائق بالنزول في منطقة شبه خالية إلاّ من بعض المباني ويأمرهم بالدخول الى باب يقابلهم ليجدوا أنفسهم في مكان كبير وواسع ملئ بجنسيات مختلفة من أفارقه ومغاربة وبنجلاديش وتوانسة ويعرف هذا المكان (بالمخزن) وعلم من رفاقه بأنّه موجود في صبراتة وهي مدينة ساحلية لها شاطي طويل وسيتمّ تهريبهم من هناك.
وظلّوا في المخزن لأيّام لم يروا فيها إلاّ شخصا ملثّما يفتح الباب كلّ صباح ويقدّم لهم الماء والطعام لمرة واحدة في اليوم ليتقاسموه ويحضر لهم السجائر وبطاقات الهاتف مقابل ان يدفعوا له ضعف المبالغ المستحقّة، وفي إحدى المرّات جاءهم كالعادة وأخبرهم بأنّ الرحلة ستكون خلال بعض ساعات وعليهم دفع ثمن الرحلة مسبّقا وتم ذلك كلاّ حسب ما اتّفق عليه، وبعد ان أخذ منهم المبلغ غادر ولم يعد ثانية ولم يروه وظلّوا منتظرين إلى أن فتحت عليهم الأبواب في الساعة الثانية ليلا ويتفاجأ الجميع بأفراد من الامن يقبضون عليهم ونظرا لعددهم الكبير وقلّة عدد أفراد الامن، استطاع بعضهم الهرب في ذلك الظلام وتمكّن حسن كان من الفرار إلى وجهة غير معلومة. هم يريدون فقط النجاة من السجن او الترحيل وظلّ يجري الى أن أصبح بعيدا عنهم ولم يعد يسمع حتى دويّ الرّصاص الدي أطلقه الأمن حينها توقّف للبحث عن هاتفه وتمنّى ألاّ يكون فقده في مغامرته تلك ووجده في جوربه الّذي أخفاه فيه حسب ما نصحه به زملاؤه ليتّصل مجدّدا بعصمان ابن عمه ويخبره بماحدث له، وفسّر له عصمان أنّ ماحدث هي عملية نصب فقد تمّ إبلاغ السّلطات بمكانهم بعد ان أخذوا منهم مالهم، ونصحه بان يتّجه لمدينة أخرى لأنّه لايمكنه البقاء هناك وأشار عليه أن يتّجه الى مدينة زوارة وتوجّه بالفعل هناك.
وفي زوارة بدأ حسن في البحث عن بيت وعمل فتحصّل على بيت اولهم وظلّ متنقلا هنا وهناك ليجد أخيرا عملا في احد البيوت المجاورة لبيته يساعد امرأة مسنة في تنظيف المنزل وتهب له ما تستطيع من المال كمقابل ولم يثنه ذلك بل ازداد اصرارا حتّى عندما علم بوفاة صديقه ابوبكر غرقا في البحر فقد قال حسن آنذاك(أنا لن أخاف الموت فهو قدر يعلمه الله وكتبه لنا وخوفي لن يغيّر في ذلك شيئا. الموت عندي هو حياة الفقر والجوع لأمي واخوتي الصغار وانا اؤمن بقدر الله الذي كتبه لي) وهذا ما جعله يبحث ثانية عن صانعي الحياة في نظره وهم المهرّبون لإيطاليا ليتعرّف في البيت الذي يقطنه على افريقي من نيجيريا يعمل كمندوب عن المهرّبين يتفاوض مع الأفارقة الراغبين في الهجرة وللمندوب نسبة من المبلغ الذي وصل الى 2000 دولارا غير قابلة لأي نقاش، وافق حسن شرط ألاّ يسلّم المبلغ إلا وهو على الشاطئ وبعد نقاش اتّفقا أنّه سيدفع نصف المبلغ قبل السفر والباقي على الشاطئ، وأخبر حسن الوسيط بأنّه سيبقى في بيته وعمله الى أن يحدّد الموعد عندها سيأتون لأخذه مباشرة الى الشاطئ.
وهذا ماحدث حينما جاءه المندوب الافريقي يخبره أن الحاج قرّر الرّحلة في تلك الليلة ( والحاج هو مايعرف به المهرّب عادة فلا تُذْكر حتى اسماؤهم) وستأتي سيارة لنقلهم ويجب ان يركبوا السيارة ويحنون أجسادهم ولاتظهر حتّى رؤوسهم منها ولن يجلبوا معهم أيّ أغراض، وأملى عليهم كلّ التّعليمات وهي أن لا يحرّكوا ساكنا على الشاطئ إلاّ حسب الأوامر وسيكون هناك كابتن محترف سيقود بهم المركب وعليهم أن يحافظوا على هدوئهم والا انقلبت بهم المركب في البحر، في مساء تلك الليلة جاء حسن يدقّ الباب على جارته وربّة عمله يخبرها بأنه سيسافر وطلب منها الدعاء له، وهذا آخر ما أخبر به حسن مدي قبل أن يغادر ووعد بأنّه بمجرّد أن يصل ويستقرّ وضعه سيتّصل ويكمّل سرد ما حصل له أثناء الرّّحلة ولكنّه لم يتّصل بأحد إلى اليوم حسب إفادة أحد أقاربه. وقد يكون في عداد الموتى الآن.
هكذا كانت نهاية رحلة حسن للبحث عن الحياة، وهكذا حقّق حلمه وأحلام أمّه وإخوته الخمسة الّذين عقدوا عليه الآمال فتبخّرت آمالهم في الهواء وتبخّر معها أخوهم الأكبر حسن.