مضاد وطني" لتفشي " الالتهابات" العرقية و الحقوقية و الشرائحية...
السبت
2 أيار (مايو) 2015
20:46
المختار ولد داهي سفير سابق خبير تحليل و تقييم السياسات العمومية
- لا أحسب أن مكابرا مدمن المراء يستطيع أن يتجاهل كون الجسم الوطني يعاني اليوم أكثر من أي وقت مضي من التهابات عرقية و شرائحية و حقوقية،... تزكم رائحتها الأنوف و تنذر بالتعفن الذي قد يحولها إلي أمراض أكثر استعصاء إذا لم يتم تطهيرها و علاج آثارها العرضية و أسبابها الجذرية بقدر غير قليل من السرعة و الجرأة و الحكمة و التضحية و الصرامة و "القوة في الحق" و القوة في اللين...
- و قد ينصرف إلي ذهن البعض أن واجب معالجة هذه الالتهابات يعود للدولة و الحاكم وحده بينما المطلوب المسنود بشواهد التجارب الناجحة في العديد من دول العالم يشير إلي أن معالجة هذه الظواهر هو أولا و قبل كل شيئ عمل النخب الفكرية بالأساس ذلك أن الأمر يتطلب إصلاحا مجتمعيا و لا يكفيه برنامج سياسي و الإصلاح المجتمعي شأن أهل الفكر و النظر لا أهل السياسة و الإدارة.
- قد لا يخطئ البعض حين يرجع الانتشار السريع لهذه " الإلتهابات" إلي مناخ "الحرية المفتوحة" الذي تعرفه البلاد و الذي شجع أصحاب المظالم علي الجهر بها و نفض الغبار عنها و المطالبة بتصحيحها و التعويض المادي و المعنوي عنها،... و اختلط في ذلك حابل المظالم الحقيقية المؤسسة علي وقائع من الماضي و شواهد من الحاضر مع نابل أصناف أخري من المظالم منه النفسي و الوهمي و الكيدي.
- و يمكن تقسيم تلك الالتهابات التي يعاني منها الجسم الوطني إلي ثلاثة أصناف: التهاب عرقي و التهاب حقوقي و التهاب شرائحي و مناطقي.
- فبخصوص الالتهاب العرقي فصحيح أن الدولة الموريتانية الحديثة عرفت منذ نشأتها الأولي - و التي كانت نشأة ضيزي- شجعت علي التجاذب و الاستقطاب و الاحتقان العرقي بلغ أحيانا حد الصدام العرقي ( أحداث 1966،1979،1989،1991) مما خلف رواسب حقوقية سالت مياه وطنية و إقليمية و غربية كثيرة تحت الجسور قبل إيجاد تسوية مادية و معنوية محمودة بأياد موريتانية وطنية-لآثارها( عودة و دمج اللاجئين، تعويض أصحاب الحقوق تعويضا مجزيا،اعتذار ضمني للدولة عن تجاوزات أحداث 1991،...)
- و الضجيج المثار الآن حول المسألة العرقية يجد تفسيره في أنه لا زال قلة قليلون من "تجار المظالم" يعيدون رواسب الاحتقان العرقي أحيانا إلي الواجهة الإعلامية تحت يافطات دعوات الانفصال و الحكم الذاتي و إعادة تأسيس العقد الاجتماعي و مكانة اللغات الوطنية و الفرق بين اللغة الرسمية و اللغة لوطنية و الهوية التعددية أو الهوية الأحادية.. وتصعد حدة اللهجة و تهبط عند تجار المظالم هؤلاء حسب تأرجح مؤشر اتجاهات رياح الأجندات الإقليمية و الدولية التي يقتاتون عليها...
- أما فيما يتعلق بقضية الاسترقاق و رواسبه فإنها رغم النيات و الأعمال الحسنة المعلنة من الجميع حكاما و معارضة و نخبا فكرية و من كافة عامة الناس.. لا زالت تستحق المزيد من الاستشراف و المقاربة و التصويب و الاستفادة من التجارب الناجحة للغير.
- و قد يصيب البعض حين يرجع استعصاء اختفاء الاسترقاق و رواسبه إلي فشل جزئي لكل من المجتمع المدني( ابتداء من الدولة الوطنية الحديثة) و المجتمع الأهلي( النخب الفكرية و التيارات و الأحزاب السياسية،...) في استشراف خطورة إهمال انعكاسات هذه الظاهرة المجتمعية التي عرفتها كل المجتمعات تقريبا و ما عرفه المجتمع الموريتاني منها -حسب موقع نظري- كان من الصنف المتوسط حدة و اتنشارا.
- وقد تجاوزت العديد من الدول و المجتمعات ظاهرة الاسترقاق و رواسبه بفعل إصلاحات و مراجعات مجتمعية ثاقبة قادتها النخب الفكرية و فرضتها علي النخب السياسية و تلك هي الحالة الطبيعية حيث أن النخب الفكرية تهتم أساسا بالاستشراف و الوقاية و العمل في دائرة الأمد المتوسط و الطويل بينما النخب السياسية "مسكونة بالعاجلة" و حساب الربح و الخسارة الآنية و العمل داخل دائرة الأمد القصير و لعل إحدي أهم مشاكلنا في هذا البلد هي استقالة النخب الفكرية و تمييع النخب السياسية.
- وقضية الاسترقاق و رواسبه اليوم تكاد تحيد عن مسارها بفعل استقالة النخب الفكرية و تمييع الطبقة السياسية( حيث أصبحت السياسة مهنة من لا مهنة له) و ما قد يوصف بشيئ من تراجع ألق "الرشداء" - و كثير ما هم- من المدافعين عن حقوق ضحايا الاسترقاق و رواسبه في مقابل طغيان أصوات فئة قليلة العدد من "غير الرشداء" الذين يجهرون بالسوء من القول اتجاه الدين و الوطن والتاريخ... وهم بذلك يسيئون إلي القضية أكثر مما يخدمونها بحيث يعملون علي اختزالها و تقزيمها بتحويلها من قضية إجماعية لا يختلف اثنان علي و جاهتها و استعجالها و أسبقيتها في الشأن العام إلي مسألة فئوية لها أنصار و "قاسطون" و دون ذلك.
- أما الصنف الثالث من الالتهابات فيرتبط بالعديد من الصيحات الشرائحية و الحقوقية و المناطقية.. و التي من الأكيد أن منها ما لا يخلو من و جاهة إذا سلم من آفتي التهويل و التهوين و منها ما هو وهمي و ما هو كيدي و منها ما لا يعدو ظواهر صوتية تصطاد منافع سياسية أو مادية أو ما " تيسر" من فتاتهما...
- و إذا تمهدت فكرة الالتهابات العرقية و الحقوقية و الشرائحية التي يعاني منها الجسم الوطني علي تفاوت في الخطورة و الاستعجال فإني أحسب أن من واجب النخب الفكرية التداول حول معالم إصلاح مجتمعي كبير يحفظ المجتمع الموريتاني و الدولة الموريتانية من مخاطر الانزلاق نحو رأي الفئة القليلة من " غير الرشداء" من بعض من يسمون أنفسهم "بالحقوقيين" الذين لا يرون أبعد من مواقع أقدامهم.
- و في انتظار ذلك اقترح علي أهل السياسة- المتخصصين عادة في المهدئات- ابتكار "مضاد وطني" موجه أساسا إلي مكافحة الالتهاب الأكثر خطورة و هو الالتهاب الحقوقي يتكون ذلك المضاد الوطني من ثلاثة مواد لا تتسع طبيعة هذا النوع من " الوجبات السريعة للتفكير"Fast food for thought لتفصيل تركبتها لذلك سأقتصر علي تسميتها فقط.
- فالمضاد الوطني المطلوب و المتمثل في برنامج عملي مؤقت للقضاء أو التخفيف من الالتهاب الحقوقي يتكون من ثلاثة مواد هي : أولا إنشاء رسم علي الثروة يسمي "رسم التضامن علي الثروة" taxe de solidarite sur la fortune يؤخذ من الأغنياء و توجه عائداته إلي التنمية الاقتصادية و الاجتماعية لمناطق تواجد ضحايا الاسترقاق و رواسبه و ثانيا مأسسة التمييز الإيجابي وتشجيع الخطط السكنية الحضرية المشجعة للاختلاط الاجتماعي(La mixite sociale) و محاربة العوازل السكنية( الكيتوات)و ثالثا إعداد خطة عشرية طموحة باهظة الكلفة للتعليم النظامي و المحظري و التربية المدنية و التكوين المهني و محو الأمية... لصالح سكان مناطق تواجد رواسب الاسترقاق بهدف ردم الفوارق الاجتماعية بين مكونات المجتمع الموريتاني يتم تمويلها بتخصيص غلاف مالي معتبر من عائدات الثروات الوطنية( الحديد، السمك،الغاز، النفط،...).
- قد يقول قائل إن الحكومة تتبني بعض مواد هذا المضاد الوطني و هو قول ثابت صحيح و جهد مذكور و مشكور لكن المطلوب هو توسيع حجم المضاد الوطني و أن يشعر المستهدفون بمشاركة المواطن الموريتاني الميسور في التمويل بصفة مباشرة من خلال اقتطاع ضريبي من الأغنياء يوجه لهذا الصنف من الفقراء و بشكل غير مباشر من خلال تخصيص جزء كبير من الموارد المالية العامة لفترة زمنية طويلة مخصص للرفع من شأن هذه الشريحة الهامة من المجتمع و ضمان تكافئ فرص أجيالها المستقبلية مع باقي مكونات المجتمع الموريتاني.
اضف تعقيبا