يعتبر مفهوم الحرية من أعقد القضايا التي يخوض في معتركها الكتاب والباحثون، فهي القضية التي ما تزال تشغل كل المجتمعات تنظيرا وتطبيقا، وإذا كانت القاعدة الفقهية تقرر أن "الأصل في الأشياء الإباحة" والناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" كما قال عمر، فإن الحرية نزعة فطرية في البشر، إلا أن الاتفاق حولها يكاد يكون أمرا مستحيلا، حيث يصعب إيجاد صيغة كونية موحدة لمفهوم الحرية نتيجة الاختلاف بين الحضارات والثقافات والأديان، فما يعد من قبيل الحريات في مجتمع ما، قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر، ورغم تباين المجتمعات في النظرة لمفهوم الحرية، إلا أن كل مجتمع يقر بضرورة وجود ضوابط أو قيود لممارسة تلك الحريات بأنواعها المختلفة.
وقد وجدتني ملزما بالكتابة عن هذا المفهوم الشائك بعد الفعلة التي فعلها بيرام وأتباعه من إحراق الكتب الإسلامية لجهلهم أو تجاهلهم لموقف الدين الإسلامي الحنيف من ثنائيتي الحرية والعبودية، لذا أردت أن أسطر كلمات توضح الالتباس وتصحح الفهم الخاطئ.
من المعلوم أن الحرية في لغة العرب نقيض العبودية والاسترقاق، وهي بهذا المعنى واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وتوضيح الواضح يزيده إشكالا كما قيل، أما الحرية اصطلاحا فلها معان متعددة، ومفاهيم مختلفة، لا يكاد يتفق عليها اثنان لاختلاف الأعراف والتقاليد بين الشعوب، فمشي الإنسان عاريا في غابات إفريقيا مثلا يعد سُنة متبعة وعادة مستحسنة عند تلك البلاد، وزواج المثل في بريطانيا يعتبر من صميم الحرية التي يكفلها الدستور ويحميها القانون، وهو في الإسلام شذوذ جنسي، وتطرف أخلاقي، مناقض للفطرة حيث يجعل الإنسان مهددا بالانقراض بإيقافه للتناسل البشري.
وقد كفل الإسلامي الحرية للإنسان وحماه من الظلم والاضطهاد، كما تنص عليه مصادر التشريع الإسلامي من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والسيرة المحمدية، وأقوال الخلفاء الراشدين، وفتاوى الفقهاء والمحدثين، قال تعالى ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾ ومما لا شك فيه أن الحرية جزء لا يتجزأ من ذلك التكريم وقال ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ وإذا كان الله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم فليس من المعقول أن يفرض عليه المذلة والاسترقاق.
وهذا ما بينه القرآن في آية أخرى حينما ضرب لنا مثلا في قيمة الحرية فقال ﴿ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون﴾ والجواب معروف، فالحرية والاسترقاق لا يستويان، وقال تعالى مخاطبا للمستضعفين معاتبا لهم على خضوعهم للظلم ﴿ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها﴾ وقال على لسان رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه مستنكرا للظلم والاضطهاد ﴿أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله﴾ ووصف الله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه جاء رحمة للناس ومحررا للعباد من الاستعباد ﴿ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم﴾، كما قص الله علينا حوارا جرى بين موسى وفرعون حيث قال موسى معاتبا لفرعون وساخرا منه في صيغة تهكم ﴿وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل﴾ مما يدل على أن العبودية قديمة قدم الظلم والكفر الذين اشتقت منهما، والإسلام منها براء لأنه لم يأت بها بل وجدها أمامه من رواسب ظلم الجاهلية، فأراد أن يقضي عليها بشكل تدريجي ووضع لها الحدود والحلول، كما سنبين لاحقا.
وقد فرض الجهاد دفاعا عن الحرية ونصرة للمظلومين والمستضعفين في الأرض فقال تعالى ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾ وقال تعالى ﴿ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا﴾.
وهذا ما فهمه السلف الصالح من مفهوم الحرية حيث قال عمر رضي الله عنه زاجرا لمحمد بن عمرو بن العاص لما ظلم قبطيا من أقباط مصر "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار" وكما قال علي بن أبي طالب "لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا" وهو ما أجاب عنه أيضا ربعي بن عامر رضي الله عنه لما سأله رستم قائد جيش الفرس ماذا أتى بكم ؟ فقال: جئنا لنخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".
لقد كانت العبودية كما أسلفت قديمة قدم الظلم والكفر الذين اشتقت منهما ولم يأت بها الإسلام بل هو منها براء، بل وجدها أمامه من رواسب الجاهلية فأراد أن يقضي عليها بشكل تدريجي ووضع لها حدودا وحلولا منهجية لا خلاف عليها حيث فرض على كل مسلم طلق زوجته بالظاهر أن يعتق رقبة، وعلى كل من قتل نفسا خطئا أن يحرر رقبة وعلى من أفطر عامدا في رمضان من غير عذر أن يعتق رقبة وعلى من حنث في يمينه أن يعتق رقبة...
وأكثر من هذا وذاك فقد جعل الله تحرير الأرقاء عبادة وأوجب على ولي الأمر أن يحرر الأرقاء من أسيادهم بمال الدولة الإسلامية، كما فتح الإسلام كل الطرق المؤدية إلى الحرية وأغلق كل الأبواب المؤدية إلى العبودية ولم يترك منها إلا بابا واحدا هو باب التفاوض السياسي في العلاقات الدولية بين دولة إسلامية وأخرى كافرة، حيث أباح الإسلام لرئيس الدولة المسلمة في حال دخوله في حرب عسكرية مع دولة كافرة وأسرت قواته منها جنودا أن يختار بين خمسة أمور:
1 أن يَمٌن على هؤلاء الجنود الكفار بإطلاق سراحهم دون مقابل إن علم فيهم خيرا أو أنهم سيكفون عن قتال المسلمين.
2 أن يبادلهم بأسرى من الجنود المسلمين إن كانوا موجودين لدى دولة الكفر.
3 أن يطلب فديتهم بمبالغ مالية تدفعها دولتهم مقابل إطلاق سراحهم.
4 أن يقتلهم إن علم مدى حقدهم وخطرهم على الإسلام والمسلمين.
5 أن يتخذهم عبيدا وعمالا يخدمون مصالح الدولة الإسلامية.
وهذا الخيار الأخير هو الباب الوحيد الذي تركه الإسلام مفتوحا وسببا للعبودية، مع أنه لم يترك هذا الاستعباد مفتوحا على مصراعيه من غير شروط ولا حقوق للمٌعبَد بل فرض من الشروط على السيد وأوجب من الحقوق للعبد ما يمنعه الاستعباد ويجعله من الصعوبة بمكان، وهذه الحقوق والشروط هي:
يحرم على السيد أن ينادي عبده بـ يا عبدي لأنهم جميعا عبيد الله كما في الحديث الصحيح.
يحرم عليه أن يستعمله في العمل ليلا ونهارا بل إذا استعمله في الليل حرم عليه تشغيله في النهار وإن شغله في النهار حرم عليه تشغيله في الليل.
يجب عليه علاجه ونفقته وكسوته مما ينفق منه على عياله ويكسوهم به.
يحرم عليه ضربه أو إيذاؤه بأي قول أو فعل، وإن فعل عكس ذلك يصبح العبد حرا.
يحرم أن يحمله فوق طاقته وإن حمله وجب عليه أن يساعده
يجب عليه أن يعلمه مبادئ الإسلام ومكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
يجب على السيد أن يقبل المكاتبة من عبده وهي: أن يُتعهد العبد بتقديم خدمة معينة أو دفع مبلغ مالي مقابل تحريره وهنا لا يجوز للسيد أن يرفض الاتفاق قال تعالى (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
واشتراط الفقهاء للحرية في الإمامة والرئاسة وغير ذلك من المناصب ليس قدحا في الأرقاء بقدر ما هو تعاطف معهم لأن المسترق مثل المسجون المقيد لا حول له ولا قوة ولا يملك قرارا ما لم تنفك عنه قيود العبودية.
أما حرية الرأي والتعبير في الإسلام فهي مكفولة لكن تحكمها القيود والضوابط التالية:
1 – أن لا تخل بأمن البلاد ومصلحة العباد، لقوله تعالى ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض﴾.
2 – أن لا تؤدي إلى إثارة النعرات الجاهلية لقوله صلى الله عليه وسلم « ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية».
3 – أن لا تؤدي إلى تحريض الناس على الإجرام وحثهم عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».
4 – أن لا تؤدي إلى المساس بكرامة الأشخاص وأعراضهم لقوله صلى الله عليه وسلم « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
5 – أن لا تخالف قواعد الشريعة الإسلامية العامة ومقاصدها الكلية، لقوله تعالى ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾.
6 – أن يلتزم صاحبها بالنقد الهادف سعيا إلى الإصلاح لا بقصد التشهير.