بول مارتي.. أبرز "مؤرخي" الإدارة الفرنسية الاستعمارية
وكالة كيفة للأنباء

سألتُ المختارَ بنَ حامدن رحمه الله تعالى بالمدينة المنورة في أبريل 1992 هل التقيتم بالشيخِ سعدِ أبيه بن الشيخ محمد فاضل رحمهما الله تعالى؟ فقال لي: نعم، كان ذلك قبيْل الحربِ العالمية الأولى بقليل وبمدينة المذرذرة، فقد دعاني لأترجم حديثا بينه وبين "بُولْ مَارْتِي" (Paul Marty) الفرنسيِّ الشهيرِ المهتم بموريتانيا وتاريخ أهلها وأنسابهم وأخبارهم.

لم أسال المختارَ عما دار بين الرجلين، وهو مهم دون شك، وأنا على يقين أنه رحمه الله تعالى ما يزال حينها حافظا له بتفاصيله وجزئياته إذ كان، وهذا من الغرائب، وهو في سنه تلك المناهزة للمائة عام، يستحضر التفاصيل بدقائقها وخفاياها والأخبار بشخصياتها وأحداثها.

كنت حينئذٍ مهتما أكثر بالشيخ سعد أبيه وبمعرفة صفاته وأخباره وعلاقاته بمنطقة الترارزة وغيرها خصوصا عند من شاهده عن قرب.

فقد كانت لدي يومئذ نسخة من رسالة الشيخ سعد أبيه: "الأسنة النافذة في رد البيعة الحادثة" وكنت معجبا بأسلوب الشيخ ودقته في السرد وصراحته في الحديث عندما سطر رحمه الله تعالى جزءا هاما من سيرته الذاتية وفصل تفصيلا مستوعبا ظروف انتقاله من الحوض وإقامته بمنطقة الترارزة، وما انتسج بعد ذلك بين الشيخ وبين غيره من علاقات اجتماعية وتاريخية.

بول مارتي.. المعرفة الاجتماعية والتاريخية مدخل من مداخل السيطرة

تذكرت هذا الحديث وأنا اتصفح دفترا من دفاتر بول مارتي الشخصية وفي هذا الدفتر بعض ملاحظاته الخاصة التي كتبها بيده مقيدا بعض التواريخ والأنساب الموريتانية.

وهذا الدفتر الثمين والنادر موجود عندي في وثائقي الخاصة وقد جمع فيه مارتي بعض الإشارات المفيدة والمتعلقة ببعض القبائل والمجموعات في الشمال (من بين من هو مذكور الزرگيون، تكنة، تجكانت الساحل، يگوت...)، كما يفصل في بعض الأسر تفصيلا مهما (أهل الشيخ ماء العينين، أهل بيروك...)، وتجده يرصد فيه أسماء بعض المهاجرين الموريتانيين في الشمال من رجال المقاومة الوطنية من البراكنة والترارزة وإدوعيش وغيرهم.

ويلاحظ القارئ لأول وهلة حرصا من الكاتب على معرفة كل شيء عن موريتانيا، وتقييد كل شاردة وواردة من أخبارها.

لم يعش بول مارتي أكثر من 56 سنة بدايتها في الجزائر حيث ولد ونشأ ثم عاش بعض حياته في المغرب، وجزءٌ هامٌّ منها قضاه بين موريتانيا والسنغال وخاتمة حياته كانت بتونس حيث أودى بمستشفى لويس فايان (Louis-Vaillant) العسكري بتونس في 11 مارس 1938. ومع قصر هذه المدة وكثرة ما دار فيها من تنقلات إلا أن ما كتبه مارتي عن موريتانيا وحدها، لو قيس بما قضاه من حياته فيها، لكان شيئا لافتا للنظر.

حيث كتب المقالات الطويلة والكتب المتشعبة الضخمة عن بلادنا وكل ذلك في حيز زماني وجيز.

كتب بول مارتي، المولود ببلدية "بوفاريكْ" بولاية البليدة بالجزائر، الكثير الكثير عن موريتانيا شرقها وغربها، جنوبها وشمالها، طوى بلادنا طيا ونفضها نفضا وسافر في أرجائها أسفارا بحثا وتنقيبا واستطلاعا. وقد مهدت له الإدارة الاستعمارية في عمله البحثي تمهيدا، واستوصت به جميع الأعيان عربا وزوايا، فالتقى بالشيوخ والأشياخ وقرأ الكنانيش والحوليات وحاور الأعيان وسأل الرواة مستفسرا عن كل صغيرة وكبيرة.

لا غرو أن تأتي الروايات الشفوية على رأس مصادر بول مارتي أثناء كتابته تاريخ بلادنا، فقد سجل روايات كثيرة من هنا وهناك. كما وضع يده على ما هو متاح في بداية القرن العشرين من وثائق مكتوبة عن أخبار موريتانيا فجمع إلى شجرات الأنساب الحوليات الولاتية والنعماوية فضلا عن أنظام التاريخ المتداولة في منطقة الترارزة.

كانت كتب التاريخ المؤلفة عن منطقة الساحل وخصوصا منطقة أزواد من مصادر بول مارتي كذلك، فكثيرا ما نجده يحيل على تاريخ السودان للساعدي وعلى تاريخ الفتاش أو على تذكرة النسيان وهي ثلاثة كتب كان رجل الديانة المسيحية أوكتاف هوداس (Octave Houdas) قد طبعها ما بين سنتي 1898 و1900، وكلها نصوص ألفت عن منطقة أزواد وتحدثت عن تاريخها.

حاول مارتي فهم المجتمع الموريتاني وتاريخه من خلال كتابات الناصري في كتابه الاستقصا ومن خلال مقدمة ابن خلدون فقد كان هذان المصدران حاضرين في كتاباته فضلا عن رحلة ابن بطوطة والطرائف والتلائد للشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيدي المختار الكنتي وغير ذلك...

جمع بول في مارتي في كتبه ومقالاته عن موريتانيا التي تنيف على العشرين مادة غزيرة كلما بدأت في قراءتها شدك أسلوبه في البحث والتحري واستكشاف المجهول إلى أن تتابع كتابه أو مقاله حتى نهايته.

كَتَبَ بول مارتي ما كتبُه خدمة للإدارة الفرنسية المستعمرة؛ فزود الولاة ورؤساء المراكز والإدارة عموما في سينلوي "اندر" وفي غيرها بما يحتاجونه من معلومات تفصيلية عن هذا الشخص رئيسا كان أو مرؤوسا غنيا أو فقيرا، وعن تلك القبيلة عددها وأهميتها، أو تلك العشيرة مكانتها وتأثيرها، وعن تلك المنطقة ماءها ومرعاها، أو تلك الطريقة الصوفية أشياخَها ومريديها. ولذلك تجد هؤلاء الإداريين يستشهدون به في محاضرهم وفي الملفات الاستخبارية التي كانوا يحررونها لجميع الأعيان من شيوخ وغيرهم. وسوف أخصص مقالة قادمة إن شاء الله تعالى لتلك الملفات الاستخبارية فلدي نسخ من الكثير منها.

أعانت كتابات بول مارتي التاريخية والاجتماعية الإدارة الاستعمارية الفرنسية في فهم الناس وفي التعامل معهم وفي تصنيفهم وفي معرفة انتماءاتهم وتوجهاتهم وغير ذلك مما يعين المتصرف الفرنسي في الشؤون العامة في تدبير حياة الناس وفي تسيير أمورهم.

تاريخ مناطق موريتانيا ما عدا تگانت والعصابة وآدرار كتب بول مارتي عن الحوضين في كتابه "القبائل البيضانية في الحوض والساحل الموريتاني" وقد ترجمه الباحث المؤرخ السيد محمد محمود ولد ودادي كما ترجم ما يتعلق بكنتة الشرقيين والبرابيش من كتاب ثان لمارتي تحدث فيه عن هاتين القبيلتين وعن قبيلة إيگلاد الطارقية.

أقام مارتي زمنا في البراكنة والترارزة فألف كتابين الشهيرين عن هاتين المنطقتين. ولم يترجما بعد، كما ألف كتابه الشهير "دراسات حول الإسلام في موريتانيا" وقد ترجمه مؤخرا الدكتور البكاي ولد عبد المالك وصدر سنة 2010 بتونس. وقد تعرض فيه مارتي للطريقة القادرية في منطقة الترارزة وخاصة فرعها المختاري (نسبة إلى الشيخ سيدي المختار الكنتي وقد أخذها عنه الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبة الأبييري رحمهم الله)، وتحدث فيه كذلك عن فرع آخر من الطريقة القادرية وهو فرعها الفاضلي (نسبة إلى الشيخ محمد فاضل بن مامينا) كما تناول الطريقة التجانية وخاصة فرعها الحافظي (نسبة إلى الشيخ محمد الحافظ العلوي).

خصص مارتي أيضا كتابا هاما لقبائل منطقة تيرس والساحل عموما وهو كتابه: "قبائل موريتانيا العليا"، ويمكن تحميله من هذا الموقع:

http://souhoufi.com/IMG/pdf/PaulMar... وله مقال مشهور خاص بالساقية الحمراء طبيعتها وتضاريسها وساكنتها وهو مكمل لما قبله.

ويبدو لي أن بول مارتي لم يجمع من المعلومات عن تگانت والعصابة وآدرار ما يكفي لذلك لم يخصص لهذه المناطق كتبا بعينها وذلك نقص بين في تآليفه، وتقصير جلي.

ومن أغلاط بول مارتي العديدة نسبته كتاب "تاريخ دخول المرابطين لبلاد شنقيط" لبابه بن الشيخ سيديا الأبييري رحمه الله تعالى وإنما هو لأحد علماء ومؤرخي قبيلة إداشغره وقد ترجمه مارتي ونشرته لجنة الدراسات التاريخية والعلمية بأفريقيا الغربية الفرنسية سنة 1921.

ويمكن تحميل العديد من كتب بول مارتي من مواقع إلكترونية من أبرزها موقع المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس أو بالاستعانة بأحد محركات البحث الشهيرة كغوغل أو غيره ورابط موقع المكتبة هو: http://gallica.bnf.fr/

مكتبات وصور نادرة تقييدات بول مارتي في كتبه المتنوعة كثيرة وفيها إشارات ثقافية نادرة منها مثلا الجرد الببليوغرافي الذي أورده في كتابه الإسلام في بلاد البيضان (L’Islam dans le pays maure) الصادر بباريس سنة 1916 حين عرض قائمة مكتبة الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد بن سليمان الديماني رحمه الله تعالى وهي مكتبة موريتانية غنية وتمثل نموذجا للمكتبة الموريتانية التقليدية وتحتوي هذه المكتبة على 240 كتابا ويشكل جرد المخطوطات وحده 174 مخطوطا.

كما أنه نشر صورا نادرة لبعض الأمراء والأعيان مثل صورة الأمير سيدي أحمد ولد أحمد ولد عيدة الأمير المجاهد الشهيد ومعه وزيره بوبالي رحمهما الله تعالى وغيرهما.

ونشر أيضا صورة الأمير أحمد سالم بن إبراهيم السالم رحمه الله تعالى وبعض حاشيته. وفي كتابه إمارة الترارزة نشر صورة الشاعر الأديب امحمد بن أحمد يوره وابنه محمد بابه رحمهما الله وهو الصورة الوحيدة الموجودة لهما حتى الآن.

وكذلك صورة الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد بن سليمان الديماني رحمه الله تعالى.

وتشكل صور سناد بن محمد بن محمذن ابن عبد الله جنگ اليدالي إحدى الصور النادرة التي انفرد مارتي بنشرها في كتابه عن إمارة الترارزة. وكان سناد المذكور عبقريا تعلم الفرنسية وصار يتقنها كتابة وحديثا وعين كاتبا للجنة الاستشارية لشؤون المسلمين في سينلوي. وهو الذي يعرفه الفقيه المؤرخ أحمدو بن اتاه بن حمينا في نظمه التاريخي عن قبيلة إدوداي يقوله:

JPG - 29.7 كيلوبايت سناد ولد محمد ولد اليدالي

حفيده سناد صافي الذهن ۞ ولم يصب في فهمه بوهن وكان فكره السليم قاده ۞ لفهم أشيا لم تكن معتاده

أصلح فلكا كل عنه المهره ۞ وقلبوا ألواحه ودسره

ونظروا الأجهزة المحركه ۞ ولم يقد ذاك لأي حركه

وبعد عجزهم عن أمر الفلك ۞ ويأسهم وأيقنوا بالهلك

وكان سناد للاجراءات ۞ مراقبا والذهن كالمرآة

طلب إذ ذاك من الملاح ۞ أن ينظر الفلك للإصلاح

فسمح الملاح بالإذن على ۞ سخرية ففعل اللذ فعلا

وحرك الفلك وقامت ماخره ۞ تشق تيلك البحار الزاخره

فعجبوا لما من الفكر احتجب ۞ في ذهنه وهو يقود للعجب

لأنه باد وغير باد ۞ في العادي علم فلك للباد

كَتَبِ بول مارتي ما كتبه من تاريخ موريتاني لغايات استعمارية، فتحدث بتحامل عن بعض الشخصيات من الأعيان والأعلام لموريتانيين لا لسبب إلا لأنهم واجهوا الاستعمار الفرنسي أو أعرضوا عنه.

وتعرض عن الكثير من الأنساب بنبرة فيها شك وريبة كما أعطى تفسيرات وتحليلات انطلق فيها من المركزية الأوروبية أي من اعتقاد راسخ عنده أن الاستعمار جاء "لإنقاذ" الشعوب المحلية وإلحاقها بالحضارة الأوروبية، وهو في ذلك إنما يعود إلى فكرة محورية في الاستشراق الأوروبي.

كان هدف مارتي الأساسي في كتبه ومقالاته التمكين للإدارة الفرنسية وتزويدها بقاعدة معلوماتية موسعة وممنهجة ومنظمة تسمح له بفهم المجتمع الموريتاني وإخضاعه.

ونحن اليوم مطالبون بقراءة ما كتبه بول مارتي وغيره من مؤرخي تلك الفترة من تاريخنا، وجعله في سياقه الصحيح. فقد كان مارتي -على علاته- شاهدا على عصر مهم جدا ومطلعا وموثقا لقضايا وتفاعلات تخص التاريخ والمجتمع الموريتانيين.

للاتصال بالدكتور سيدي أحمد ولد الأمير:

[email protected]

[email protected]


  
وكالة كيفه للأنباء - AKI
2015-01-08 12:36:03
رابط هذه الصفحة:
www.kiffainfo.net/article8918.html