هدف هذا العرض إلى تسليط الضوء على أحداث تاريخية حصلت في منطقة آفطوط ونجحت في تغيير وجهه، حيث تمكنت من القضاء على أمراض اجتماعية كانت مستشرية فيه، لتهيئ الظروف المناسبة لبزوغ وضع إنساني أفضل بالنسبة للمزارعين. وتتمثل تلك الأحداث في نضالات حركة الفلاحين التي نشأت في هذه المنطقة خلال فترة نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي والتي ما تزال تواصل نضالها لحد الساعةّ.
عند الحديث عن حركة الفلاحين، فإن الحديث عن نشاطهم الاقتصادي الرئيسي يفرض نفسه، ذلك النشاط الذي كان السبب وراء مختلف الصراعات والأحداث التاريخية الكبرى في المنطقة والذي ليس شيئا آخر سوى الزراعة والمطرية منها على وجه الخصوص.
ففي موريتانيا يمكن الحديث عن وجود عدة أنواع من الزراعة تتوزع حسب الموقع الجغرافي لكل منطقة: فهناك زراعة النخيل والخضراوات في الشمال، وهناك الزراعة المروية في منطقة الضفة حيث يتركز الاهتمام أساسا على زراعة الأرز التي دخلت إلى البلاد نهاية السبعينيات.
أما النوع الآخر -والذي سنركز عليه في عرضنا- فهو الزراعة المطرية والتي يعتمد عليها سكان آفطوط ولعصابه والحوضين. وبالرغم من العدد الكبير الذي يعيش على هذا النوع من الزراعة (حوالي 60% من السكان) فإن الحكومة لا توفر له الدعم، في حين تقوم بتوجيه جل دعمها للزراعة المروية، وإن حصل –وهو أمر نادر- دعم حكومي للزراعة المطرية فإنه لا يصل إلى مستحقيه.
لقد مرت الزراعة المطرية في موريتانيا بمرحلتين: مرحلة ما قبل الاستعمار التي استمرت حتى بعد الاستقلال وكانت للزراعة المطرية في هذه المرحلة مردودية كبيرة، حيث كان جل ساكنة موريتانيا وحتى في الشمال يعيشون على محاصيل مزارع آفطوط مع توفير فائض كبير للسكان المحليين يعيشون عليه حتى الموسم الزراعي القادم.
وقد انتهت هذه المرحلة مع موجة الجفاف التي ضربت البلاد سنة 1969، لتبدأ المرحلة الثانية حيث تناقصت كمية الأمطار التي تتهاطل سنويا على المنطقة وعرفت كذلك تقلبات في نمط الغذاء الذي كان سائدا آنذاك. ولأن جل الساكنة لم يتمكنوا من التأقلم مع الواقع المعيشي الجديد، فقد هاجروا بحثا عن فرص أفضل، لتظهر "الكبات" على أطراف المدن الرئيسة (نواكشوط ـ نواذيبوـ زويرات).
واستمر هذا الواقع حتى عام 1974 حين عرفت المنطقة تساقطات مطرية معتبرة وإن لم تكن لا بكمية ولا حجم الأمطار التي كانت تعرفها قبل سنوات الجفاف، يضاف إلى ذلك أن طبيعة التربة تغيرت بفعل سنوات الجفاف مما جعلها تفقد الكثير من خصوبتها. وهكذا تراجعت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، فلم تعد الزراعة ممكنة إلا وراء السدود أو في الواحات "التومرن".
ومن بين التأثيرات السلبية للجفاف أيضا ظهور مشكلة الملكية العقارية، حيث أن بعض الملاك كان يحوز أوراق ملكية للأرض ولكنه لم يكن بحاجة لاستغلالها بل كان يربأ بنفسه عن ممارسة الزراعة، ويكتفي بزيارات موسمية للمزارعين ليجمع المحاصيل تارة باسم الزكاة وتارة باسم الصدقة ... ولكن بعد الجفاف واشتداد الواقع الاقتصادي تغيرت نظرة ألئك الملاك الذين لم يعودوا يكتفون بإدعاء ملكية الأرض بل أصبحوا يتجاوزون ذلك بإدعائهم ملكية من عليها باعتبارهم عبيدا لهم.
ضمن هذا المناخ ولدت حركة الفلاحين في الريف الموريتاني كامتداد لحركة أخرى أشمل على المستوى الوطني هي حركة الكادحين الموريتانيين التي كانت تطالب بحرية الإنسان ومنع استغلاله لأخيه الإنسان كما كان من بين مطالبها: تأميم ميفرما ومراجعة الإتفاقيات مع فرنسا وإصدار عملة وطنية.
فبعد أن تمكنت حركة الكادحين من الانتشار في المدن الرئيسية ونجحت في تحقيق بعض مطالبها، قررت الانتقال إلى الريف من أجل مساعدة الفلاحين الفقراء في الأزمة التي حلت بهم، وحينها ركزت دعاية الحركة على أن الأرض ملك لمن أحياها ومن زرع قطعة أرض فإنها تصبح ملكا له ،وأن العبودية لم تعد مقبولة ولا مسموح بها في الواقع الجديد، وإنما المسموح به فقط هو المساواة والعدالة والأخوة.
ولم تكتف الحركة بهذه المطالب بل تجاوزتها إلى أخرى تتحدث عن إعادة تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة في هذه المنطقة بجعلها علاقة طاهرة وشريفة مبنية على أساس الزواج فقط وأن العلاقة بين العبيد وأسيادهم السابقين يجب أن تكون علاقة مساواة وأخوة فقط، وأن على الفلاحين فيما بينهم تطبيق التضامن والتكافل الاجتماعي في جميع مناحي الحياة، وعلى الشيوخ أن يقبلوا بمشاركة الشباب والنساء جنبا إلى جنب في صناعة غد أفضل للفلاحين.
وقد انتشرت أفكار الحركة سريعا بين الفلاحين في آفطوط ولاقت تجاوبا واسعا هناك، وكانت دائما تخوض نضالاتها بشكل سلمي بعيدا عن العنف. وإذا كان نضال الفلاحين السلمي قد نجح في العديد من المناطق، فإن ذلك لم يمنع من حصول مناوشات في مناطق أخرى بين الفلاحين والأسياد بسبب تعنت الإقطاع كما حصل في قرية الغبرة.
وبفعل الصمود البطولي للفلاحين في مواجهة الإقطاعيين وأعوانهم من السلطة المحلية ونتيجة كذلك لحملة التضامن الواسعة التي حدثت في المدن مع تلك النضالات، رضخت الحكومة أخيرا لمطالب الفلاحين وسلمت الأرض لمستحقيها الفعليين وتم إصدار قوانين لصالح الفلاحين مثل قانون 1981 الذي يقضي بإلغاء الرق وقانون الإصلاح الزراعي 1983 الذي يلغي الملكية القبلية للأرض ويقضي بتوزيع الأراضي التي كانت مملوكة قبليا بين أفراد القبيلة بدون تمييزكما قضى بنزع حل الخلافات العقارية الجماعية من السلطة القضائية وإحالتها إلى السلطات الإدارية.
واستمر هذا الواقع لسنوات كانت لصالح الفلاحين ونضالهم، ولكن الملاك والأسياد السابقين لم يستسلموا وعادوا من جديد محاولين تغيير الواقع لصالحهم مستخدمين نفوذهم القوي في جميع مفاصل الدولة ومنتهزين فرصة التراجع النسبي لحركة الفلاحين وقد تم لهم ذلك من خلال إصدار تعميم سنة 1986 يفرض على ممثلي الإدارة المحلية أن يعملوا على تمكين الملاك الكبار من الاستحواذ على مساحات تفوق المساحات التي كان مسموحا لهم في القوا نين السابقة بها كحد أعلى للتملك. وكذلك صدر المرسوم رقم 2000 الذي ينزع تسوية الخلافات الجماعية من يد السلطات الإدارية وإحالتها إلى ما سمي باللجان المحلية والجهوية المكونة أساسا من ممثلي الإقطاع من وجهاء وشيوخ قبائل هذه اللجان التي لا نصير للفلاحين فيها وهكذا حسمت جميع النزاعات بين الفلاحين والملاك العقاريين في السنوات الأخيرة لصالح الملاك العقاريين كما حصل مؤخرا مع رفاقنا في باركيول.
هذا ما حصل في التاريخ القريب أما أهم المشاكل المطروحة للفلاحين اليوم فتتمثل في:
1ـ إهمال الحكومة لوضعية الزراعة المطرية: فمثلا خلال زيارتنا لبورة لاحظنا قيام الحكومة ببناء مسجد ومدرسة ومستوصف وهذا جيد بالفعل ولكن لاحظنا كذلك أن سد القرية الذي هو عصب الحياة الاقتصادية فيها منهار منذ فترة، وبالتالي كان الأولى بالحكومة القيام أولا بإصلاحه لأنه بدون ذلك لا يمكن قيام أي زراعة هناك مما سيدفع بالسكان المحليين إلى الهجرة التي ستؤدي إلى هجران المدرسة والمسجد أيضا ولن يتم الاستفادة منهما، وعليه فإنه على من يريد توطين أهالي بورة في منطقتهم القيام بدعم زراعتهم المطرية، وتوفير الماء الشروب لهم لأننا لاحظنا كذلك حاجة القرية الماسة للماء الصالح للشرب.
وهذا ما لم تفعله الحكومة لأن الهدف الرئيسي من تدخلاتها هو الدعاية ولبروباغاندا السياسية وليس المساهمة في تحسين واقع المواطنيين.
2ـ الآفات الزراعية :كالطيور والحشرات التي دائما ماتقضي على محاصيل الفلاحين الذين يكابدون الكثير من المصاعب لتأتي تلك الآفات وتنازعهم محصولهم.
3ـ الصراع بين المنمين والفلاحين حيث أن المنمين دائما ما يختارون الرعي بالقرب من المزارع فيصبح من العسير منع الحيوانات من العبث بالمزروعات.
4ـ المشاكل العقارية بين من الملاك العقاريين والمزارعين وفي هذا الصدد يجب إلغاء التعميم رقم 20 لسنة 1986 وإلغاء المرسوم رقم 2000 القاضي بتحويل حل الخلافات العقارية إلى اللجان المحلية والجهوية التي يسيطر عليها الملاك العقاريون وإبدالها بهيئات أكثر نزاهة وحياد.
5ـ عدم مكننة الزراعة المطرية: ففي دراسة حديثة لصونادير لا تستطيع الأسرة الواحدة بمحراثها التقليدي "أواجيل" أن تزرع أكثر من هكتار واحد ولا ينتج الهكتار الواحد أكثر خمس مائة كيلو من الحبوب في حين ينتج الهكتار في الزراعة المروية الممكننة على الأقل أكثر من أربعة آلاف كيلو من الأرز وعليه فإن الزراعة المطرية بحاجة إلى إستخدام وسائل حديثة لمضاعفة إنتاجها ولن يتأتى ذلك إلا بمساعدة الحكومة.
تلك المشاكل أدت بالكثير من السكان إلى ترك الزراعة خاصة الشباب نظرا لعدم مردوديتها حاليا. ولم يعد يمارس الزراعة اليوم إلا بعض المسنين الذين يرتبطون بها روحيا ولكن قوتهم البدنية لم تعد تمكنهم من تحقيق نتائج تذكر.
ولمواجهة تلك المشاكل ينبغي على الحكومة أن تقوم بدعم حقيقي للزراعة المطرية آخذة بعين الاعتبار الإقتراحات السابقة الذكر.
لكننا على يقين من أن الحكومة لن تقوم بحل هذه المشاكل إلا تحت ضغط مماثل للذي قمتم به في السبعينيات والثمانينيات واستئناف تلك النضالات والتضحيات والتحلي بتلك الشجاعة وذلك الصمود الأسطوري الذي سبق وقمتم به. وبالطبع فإن العبء الأكبر من هذا الواجب يقع على عاتق الشباب الذي لن يجد بديلا اقتصاديا أفضل من زراعة أرضه.
وفي الأخير فإن النضال وحده هو الطريق لانتزاع الحقوق وتغيير واقع الزراعة المطرية في موريتانيا.
مقال نشره المرحوم في ال 28 يوليو 2018