عادة تفوتني بعض نشرات الأخبار، لكنني كثيرا ما صادفت شيئا في قنواتنا الوطنية من الأنباء، وهذه المرة بالكاد أدركت تقريرا في قناة "الموريتانية" يتناول موضوعا عن إحدى غرفتي البرلمان، لم أتمكن من تبينها، لكنني عرفت أن الموضوع المناقش كان عن مراجعة قوانين الوظيفة العمومية، تلك القوانين "البافورية" القديمة، التي أخيرا يبدو أنها تم التنبه لها.
مراجعة قوانين الوظيفة العمومية هي مطلب أساسي للعمال، للمصادر البشرية، التي تخدم الدولة عبر هيكلة الدولة ذاتها، وإن تمت مراجعة تلك القوانين فسيكون ثمة الكثير من الطلبات الملحة، التي تتعلق بتحسين وضعية العمال، وتبني فلسفة جديدة في التشغيل تتماشى مع المنهج الليبرالي الحر، وفي ذات الوقت تستلهم فلسفات حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية، وهو ما يستدعي من الدولة الوعي باللحظة التاريخية الراهنة من عمر البشرية، حيث تسود حاليا النظرة الإنسانية كافة أنحاء المعمورة تقريبا، وتدعو الدول المتقدمة والمتحضرة دول العالم إلى أنسنة قوانينها، وتحيينها لتتماشى مع المواثيق الدولية ولبروتوكولات الموقعة في المجال.
فالنظرة التي كانت سائدة إبان مرحلة الاستقلال في الستينيات لم تعد موجودة اليوم، وتم تجاوزها تماما، وليس من اللائق أن تستعاد في أي برزخ عالمي، لأنها كانت نظرة متحجرة، وكلاسيكية في عالمنا المعاصر، فنظريات العمل في خدمة المرافق العمومية بالأجر الزهيد، والعمل المضني لم تعد حاليا فلسفة ناجحة، بل حلت محلها نظريات غربية متطورة، تدعو إلى وضع الإنسان في ظروف ملائمة حقوقيا، حيث يجد الأجر، والعمل، والترفيه، والأكل، والشرب، والنوم، والراحة، والحرية، يجد كل ذلك في المكان الذي يوجد فيه من العالم، ولا يكون وقودا استهلاكيا للآخرين، يشتعل لينطفئ في أعمال بطولية مضنية تغيب فيها روح الإنسانية، وتحل مكانها همجية وبربرية الغاب.
فالشخص قديما كان يعمل لمصلحة القوي مؤسسة اجتماعية، أو شخصا عاديا، يفقد في خدمته طابعه الآدمي، وتمتهن كرامته، بحيث يوضع في ظروف غير ملائمة للعمل، يظهر فيها مسلوب الإرادة والحرية، ويعيش مقتاتا على الفتات، الذي يقدمه رب العمل المتفرعن، والحاكم باسم آلهة غامضة، أو تابو اجتماعي، يستخف عقول الناس، ويرمي بهم في مزبلة التاريخ.
تجد الموظف يكدح في إدارة عصرية، وكأنه أحد حرس معبد آمون الفرعوني، ينحني طول اليوم، ويقف، ويخاف أن ينزلق كي لا تنزل به لعنات كهنوت الآلهة، وكل هذا لا يمت للإنسانية بصلة، وشبيه بوضعية موظفي دول العالم الثالث، الذي ظل يتراجع حتى كاد يكون عالما مفارقا وضيعا، ليس مصنفا بين العوالم، وخارجا على طبيعة الجن والإنس، فهو عالم لا يعطي لبشرية الشخص أي معنى، ولا مبنى، ويغدو فيه الإنسان تافها وركيكا، فتجد موظفا في قطاع سام من قطاعات الدولة يرضى لنفسه بأن يكون طوع بنان رئيسه في العمل، الذي يحدد هو طبيعة العمل، وبشكل خارج على القانون، فتجد المكتتبين لحماية الوطن، أو لبناء الوطن، أو لخدمة المرفق العمومي على اختلافه، تجدهم وهم منغمسون في حمل الكلام إلى المدير، أو في إعداد الشاي لزوجته، أو تنظيف "مايوهاتها" ذات القطعتين، أو تجدهم يتشممون بأنوفهم كالكلاب رائحة أحذية الزعيم الرئيس في العمل، ويتزحلقون جيئة وذهابا على الرخام في بيته، في مهام تنظيفية خاصة، وهم مرغمون على ذلك، فقوانين الوظيفة العمومية لا تحميهم، وأجورهم لا تكفيهم ليعيشوا، والمحظوظون منهم وحدهم هم من يحظون بفرصة خدمة الزعيم في بيته، مقابل لقمة صاعقة، يتلقون بسببها الوخز العقربي في رقابهم، وفي كرامتهم، وشيئا فشيئا يتناسون أنهم بشر، تراهم وكل واحد منهم في جلابيب البؤس والحرمان، يظل يخدم رئيسه في البيت في تقطيع أكداس اللحم، وفي إشعال الفحم، وفي الطهي و و و ...، وفي آخر الليل يغارد بيت الزعيم في إكرامية نادرة، عبارة عن خليط من اللحم والعصير في مخلاة، يتعاطى بساق مغبر، وبثوب مرقع طريقه بين حي زعيمه، حي أصحاب الدثور والفلل الفخمة، ثم يصل إلى أحياء الصفيح ليجد زوجة مرهقة من عاديات الزمن، وحولها صبية يتمرغون في العراء، ينتظرون قدومه بصبر فارق ومنقطع الروح والنفس، يبحثون هم والزوجة في ما جلبه بهمة ونشاط، ويأكلون بلا رحمة وبشراهة، وقبل أن تلتفت الزوجة والأطفال إلى الوالد الشبح الموظف البسيط، يكون قد نام، وعلا شخيره، في الصباح تحمله رجلاه ثانية إلى منزل الزعيم، إنهم الموظفون البسطاء يشقون طريقهم بصعوبة، ومنهم الصابرون على البأساء والضراء، المرابطون على الثغور، الذين يقتاتون على راتب زهيد جدا، أو على خشاش الأرض، ويرفضون الخنوع والذل، ولكنهم في المقابل يدفعون الثمن الغالي، فلا يرقون، ولا يتقدمون، ويكون عزاؤهم في أن أنموذج صاحبنا السابق لا يتقدم هو الآخر، بل يظل يراوح مكانه، وفي النهاية ينطفئ النور في أعين الجميع، الزعماء والبؤساء، ويأتي الجيل الجديد على نفس الفلسفة.
قد يبتعد هذا قليلا عن موضوعنا الأساس، ولكنه في صلبه أيضا، فمن خلاله يمكننا أن نساعد ممثلي الشعب على تذكار الماضي، ففي أرض البؤساء كثيرون مروا يوما بشيء من غمط الحقوق، وعليهم أن يتذكروا في ساعات الحظوة ساعات الشقاء، طبعا الأمر صعب جدا في بلاد لا يسكنها بشر عاديون، بشر يتحسسون البشر الآخرين، بشر كالذين يسكنون في أوروبا، وفي بلاد العم سام "أمريكا"، فهنالك تبنى الدول من أجل الإنسان، وفي إفريقيا تبنى الدول على أنقاض البشر، ولتجعل البشر مجموعات حيوانات مختلفة في سيرك كبير، يرى فيه العجب العجاب.
من الجيد أن يراجع كل شيء في البلاد، أن تراجع قوانين الوظيفة العمومية، وقوانين القطاع الخاص، وقوانين الحياة والممات، من الجيد أن تعاد صياغة البلاد بجبالها وسهولها وبحرها وبرها وبشرها وحيواناتها، قبل أن تأتي الساعة، فيوميا صرنا نطالع تنبؤات باقتراب ساعة ما!
وبصفتي غرقت يوما في أتون نار القانون المشتعلة، وحدقت طويلا في صفحات حقوق العمال، انطلاقا من نضال الشيوعيين المستميت، والذي كان وراء قيام منظمة العمل الدولية، التي كانت استجابة لأنات الكادحين، ولأنني رأيت نظريات "جنيف" الحقوقية على اختلافها، وتمعنت قليلا في الأطروحات الليبرالية حول ساعات العمل، وأدنى أجر يمكن أن يقابل به العامل، فإنني أقترح على مناقشي قوانين الوظيفة العمومة، وعلى كل من يمكن أن يكون فاعلا أصليا أو مساهما أو شريكا في مثل تلك المراجعات أن يتبنى جملة نقاط أجملها في الآتي:
إن العامل لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يتقاضى راتبا أقل من خمسين ألف أوقية؛
يمنع منعا باتا أي تعرض للموظف بأي كلام جارح، أو غير مسؤول يمس بسمعته واعتباره؛
يمنع على أرباب العمال، ورؤسائه أن يمارسوا "الاستعباد" الوظيفي على العامل، والاستعباد الوظيفي هنا يعني جعل العامل يعمل في أمور خارج إطار العمل المشروع، والمتفق عليه، والمقبول أخلاقيا وأدبيا ودينيا وحقوقيا، كأن يجعلوا الموظف العمومي خادما خصوصيا في المنازل، أو أن يعمل الخادم الخصوصي عملا خارج ساعات العمل المسموح بها قانونا، والموجودة في قانون العمل، و لا يسمح للاتفاقيات في مجال العمل بالخروج على هذه القاعدة؛
تلتزم جهة العمل في غضون 5 سنوات ببناء سكن صغير لائق للعامل، باقتطاع يأخذ بعين الاعتبار حالة العامل أو الموظف المادية، بحيث لا يتجاوز 15 ألف أوقية، ويخلو من الفوائد؛